سيواصلون نضالهم من أجل التحرر واستعادة أرضهم السليبة الكيان الصهيوني لن يتمكن من “اغتيال التاريخ” أو القضاء على الفلسطينيين
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
إن نزع الطابع التاريخي عما يحدث في فلسطين المحتلة يساعد الكيان الإسرائيلي على مواصلة سياسات الإبادة الجماعية في غزة، والذي كان حتى تاريخ 7 تشرين الأول، يطالب بتوسيع دائرة تعريف معاداة السامية ليشمل انتقاده والتشكيك في الأساس الأخلاقي للصهيونية. واليوم، قد يؤدي وضع ما يحدث في سياقه وتاريخه إلى إثارة اتهامات بمعاداة السامية. وهكذا، يستغل الكيان هجوم 7 تشرين الأول كذريعة لمواصلة سياسات الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وهي أيضاً ذريعة للولايات المتحدة لمحاولة إعادة تأكيد وجودها في الشرق الأوسط. كما أنها ذريعة لبعض الدول الأوروبية لانتهاك وتقييد الحريات الديمقراطية باسم “الحرب على الإرهاب” الجديدة.
وبحسب المراقبين للوضع الراهن في فلسطين المحتلة، فإن ما يحدث حالياً هو جزء من سياقات تاريخية عديدة لا يمكن تجاهلها، ويعود السياق التاريخي الأوسع إلى منتصف القرن التاسع عشر، عندما جعلت المسيحية الإنجيلية الغربية فكرة “عودة اليهود” ضرورة دينية عمرها آلاف السنين، ودعت إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين كجزء من خطواتها، وأصبح اللاهوت سياسة في أواخر القرن التاسع عشر وفي السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى لسببين:
أولاً: خدمة مصالح أولئك الموجودين في بريطانيا الذين أرادوا تفكيك الإمبراطورية العثمانية ودمج أجزاء منها في الإمبراطورية البريطانية.
ثانيًا: لاقت هذه الفكرة صدى لدى الطبقة الأرستقراطية البريطانية، اليهودية والمسيحية على حد سواء، التي أغرتها فكرة الصهيونية باعتبارها علاجاً سحرياً لمشكلة معاداة السامية في أوروبا الوسطى والشرقية، والتي أثارت موجة من الهجرة اليهودية غير المرحب بها إلى أوروبا.
بالنتيجة، أدى اندماج هاتين المصلحتين إلى قيام الحكومة البريطانية بإصدار وعد بلفور المشؤوم في عام 1917 ، وخلال هذه العملية، تحول المشروع الثقافي والفكري الصهيوني إلى مشروع استعماري، يهدف إلى تهويد فلسطين التاريخية، دون الأخذ بعين الاعتبار أنها مأهولة بسكانها الأصليين.
بالمقابل، أنتج المجتمع الفلسطيني حركته المناهضة للاستعمار، وكان أول تحرك كبير لها ضد المشروع الاستعماري الصهيوني هو انتفاضة البراق عام 1929، ولم تتوقف منذ ذلك الحين.
ثمة سياق تاريخي آخر ذو صلة بالأزمة الحالية هو التطهير العرقي الذي شهدته فلسطين عام 1948، والذي شمل التهجير القسري للفلسطينيين إلى قطاع غزة من القرى التي أقيمت على أنقاضها بعض المستوطنات الإسرائيلية التي هاجمتها المقاومة في 7 تشرين الأول. وقد شاهد العالم أجمع هذا التطهير العرقي، لكنه لم يحرك ساكناً لدى أياً كان. ونتيجة لذلك، واصل الكيان ممارسة سياسة التطهير العرقي كجزء من حملته لتأمين السيطرة الكاملة على فلسطين التاريخية. وقد طرد 300 ألف فلسطيني خلال حرب عام 1967 وبعدها، وأكثر من 600 ألف من الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة منذ ذلك الحين.
وهناك أيضاً سياق الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، حيث فرضت قوات الاحتلال على مدار الخمسين عاماً الماضية، عقاباً جماعياً مستمراً على الفلسطينيين في هذه الأراضي، مما عرضهم للمضايقات المستمرة من قبل المستوطنين وقوات الأمن الإسرائيلية وسجن مئات الآلاف منهم. ومنذ انتخاب الحكومة الإسرائيلية الحالية في تشرين الثاني 2022، وصلت كل هذه السياسات الإجرامية إلى مستويات غير مسبوقة ، حيث ارتفع عدد الفلسطينيين الذين سقطوا وجرحوا واعتقلوا في الضفة الغربية المحتلة إلى نسبة كبير. علاوة على ذلك، أصبحت سياسات حكومة الكيان المحتل تجاه الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية في القدس أكثر عدوانية.
أخيراً، هناك أيضاً السياق التاريخي للحصار المفروض على غزة، والذي استمر لمدة 16 عاماً، حيث أن ما يقرب من نصف السكان هم من الأطفال. وفي عام 2018، حذرت الأمم المتحدة بالفعل من أن قطاع غزة سيصبح مكاناً غير صالح لحياة الإنسان بحلول عام 2020. ومن المهم التذكير بأن الحصار فُرض رداً على الانتخابات الديمقراطية التي فازت بها المقاومة الفلسطينية في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من قطاع غزة، الذي كان يؤوي قبل العدوان الراهن أكثر من مليوني شخص، يعيشون تحت الحصار الإسرائيلي الكامل منذ عام 2006، أي 17 عاماً… والأهم من ذلك هو العودة إلى التسعينيات، عندما كان قطاع غزة محاطًا بالأسلاك الشائكة وانفصل عن الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية بعد اتفاقيات أوسلو، حيث توضح عزلة غزة، والسياج المحيط بها، والتهويد المتزايد للضفة الغربية، أن أوسلو، في نظر الكيان المحتل، تعني الاحتلال بوسائل أخرى، وليس الطريق إلى السلام والعدالة. هكذا سيطر على نقاط الخروج والدخول إلى غزة، حتى أنه كان يراقب نوع الطعام الذي يدخل، وفي بعض الأحيان حدده بعدد معين من السعرات الحرارية.
العدوان على غزة سيناريو مظلم لإدارة بايدن
في سياق متصل، بدأت ولاية جو بايدن بكارثة كابول، ومن الممكن أن تنتهي بصراع واسع النطاق في الشرق الأوسط اليوم في حال لم يتوقف العدوان الوحشي على قطاع غزة وكامل فلسطين المحتلة.
في هذه الأثناء، نسي العالم أوكرانيا حيث لا يجرؤ أحد على المراهنة على انتصار كييف وحلفائها في الناتو، وبعد شهر من اندلاع الحريق في غزة، تجد الإدارة الديمقراطية نفسها في أسوأ وضع ممكن، فهي عالقة بين دعمها غير المشروط للكيان الإسرائيلي، وغضب الرأي العام العربي الذي يعيدها إلى كراهية أميركا في عهد جورج دبليو بوش، إذ كلما طال أمد الاختناق والتفجيرات في القطاع الفلسطيني، كلما أصبح هذا التوازن أكثر خطورة.
لقد فاجأ هجوم المقاومة في 7 تشرين الأول الجميع، وقبل ذلك بأسبوع، قال مستشار الأمن القومي جاك سوليفان هذه العبارة التي دخلت التاريخ بالفعل: “لم يكن الشرق الأوسط هادئاً إلى هذا الحد منذ عقدين من الزمن”، وهذا ما يسمى امتلاك أجهزة استشعار جيدة وذكاء ظرفي في منطقة تتواجد فيها الولايات المتحدة في كل مكان. وبالإضافة إلى سفاراته “المهيبة”، يمتلك البنتاغون أيضاً، كما يكشف موقع “إنترسيبت”، قاعدة سرية في قلب صحراء النقب، على بعد 32 كيلومتراً فقط من غزة. ولكن جيش الاحتلال كان يراقب إيران بدلاً من النظر إلى ما كان أمامه. حدثان رئيسيان آخران لا ينبغي أن يمرا دون أن يلاحظهما أحد: بعد 15 عاماً من الصراعات الداخلية والمفاوضات الطويلة جداً، تمت في تشرين الأول 2022، المصالحة رسمياً في الجزائر العاصمة بين 14 فصيلاً فلسطينياً، حيث اجتمعت هذه الفصائل على أساس القضية الفلسطينية بعيداً عن اختلافاتها الدينية والأيديولوجية، وهي التي تواجه قوات الاحتلال على جبهة غزة.
الحدث البارز الآخر كان كأس العالم في الدوحة حيث تم عرض هذه القضية على نطاق واسع في المدرجات لدرجة أن بعض الصحف الغربية عنونت: “فازت فلسطين بكأس العالم”. وتساءلت تلك الصحف: كيف يمكن إذن الاستمرار في الاعتقاد بأن هذا النضال قد عفا عليه الزمن وغير مرئي؟ كيف يمكن تصور أن آلاف السجناء في السجون الإسرائيلية، والحصار المفروض على غزة، والاستيطان في الضفة الغربية يمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى؟
العمى الأميركي كبير لدرجة أنه جعل من اتفاقيات “أبراهام” أولوية الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط. هذه الاتفاقيات، التي بدأت في عهد دونالد ترامب، ورفضتها السلطة الفلسطينية وكذلك المقاومة، تستند إلى افتراض أن القضية الفلسطينية دُفنت نهائياً، ورغم أن هذا التطبيع مع “إسرائيل” مسؤول جزئياً عن الانفجار الحالي، فإن الدبلوماسيين الأميركيين يواصلون الإصرار وزيادة الضغط على محمد بن سلمان للتوقيع عليه.
إستراتيجية الدجاجة مقطوعة الرأس
منذ هجوم 7 تشرين الأول، اتبع البيت الأبيض سياسة أكثر غرابة تظهر مدى عجزه. وبعد أسبوع من بدء الصراع، ذهب وزير الخارجية إلى مصر والأردن حاملاً رسالة مفادها: “الفكرة المجنونة لترحيل الفلسطينيين إلى صحراء سيناء”.
ما يؤكد أن الخطة تهدف إلى نقل سكان غزة إلى مصر وسكان الضفة الغربية إلى الأردن، أي تنظيم نكبة ثانية، كما حدث عام 1948، بخيام متينة!
وعليه، فإن الإستراتيجية الأمريكية برمتها متخبطة، فمن ناحية، يكرر القادة الأميركيون بلا كلل الشعار التالي: “لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها”، بينما يرسل البيت الأبيض حاملتي طائرات إلى البحر الأبيض المتوسط، والبنتاغون يزود الأسلحة دون رسم خطوط حمراء فيما يتعلق باستخدامها، أما الكونغرس فقد صوت على 14 مليار دولار كمساعدة لتل أبيب. ومن ناحية أخرى تطلب من بنيامين نتنياهو حماية المدنيين، وبعد أن استخدمت قبل عشرة أيام حق النقض (الفيتو) ضد قرار في مجلس الأمن يطالب بهدنة إنسانية، طلب أنتوني بلينكن من تل أبيب هدنة إنسانية وأعرب عن أمله في الحصول على إطلاق سراح الرهائن الذين يحملون جوازات سفر أمريكية. وكان رد جيش الاحتلال الإسرائيلي على هذا الاقتراح بتكثيف القصف، وقد لقيت دعوات جو بايدن لوقف الاستيطان والقمع في الضفة الغربية رفضاً قاطعاً من جانب الكيان المحتل، ونتيجة لذلك، غادر وزير الخارجية خالي الوفاض من رحلته الثانية إلى المنطقة.
غضب العالم
استمر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لمدة 75 عاماً، وهذا يعني أن حوالي 98% من سكان العالم ولدوا مع هذه الأزمة كإرث يحمله العالم العربي في جيناته، وحتى الخامس من تشرين الثاني الحالي، أظهرت حصيلة القصف الإسرائيلي، استشهاد أكثر من 10.000 شخصاً، من بينهم 4900 طفل، يضاف إليهم أكثر من 25 ألف جريح. وبالنسبة للرأي العام في المنطقة، فإن هذا الدعم غير المشروط واللا محدود للكيان المحتل يجعل واشنطن متواطئة في هذا العدوان الوحشي والمروع.
وبالعودة إلى فترة غزو العراق، بناءً على ذريعة كاذبة، وغوانتانامو، وأفغانستان، وقبل أوباما وخطابه الشهير في القاهرة، وفي مختلف أنحاء العالم العربي الإسلامي، من مصر إلى إندونيسيا، كانت مظاهرات الدعم للفلسطينيين ملفتة وقوية، خاصة المسيرات الأضخم التي جرت في باكستان، التي يبلغ عدد سكانها 250 مليون، وكذلك في أفريقيا، وفي بلدان جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية.
وعلى الرغم من وجود العديد من المبشرين الذين يبجلون الكيان المحتل لأسباب توراتية، فإن التعاطف موجه بشكل رئيسي نحو الشعب الفلسطيني. في هذا السياق، يوضح أحد أعضاء هذا المجتمع الإيفواري: “تطلب منا كنائسنا دعم الإسرائيليين، لكن الكثيرين منا يعتبرون ذلك مسألة سياسية. وعلى أية حال، فإن تضامننا بين ديننا والشعوب المستعمرة يذهب إلى فلسطين”. وفي أميركا الجنوبية اتخذ الاحتجاج شكلاً آخر، مع قطع العلاقات الدبلوماسية كما حدث في بوليفيا، أو استدعاء السفراء المتمركزين في تل أبيب من قبل كولومبيا وهندوراس وحتى الأرجنتين.
من جهة أخرى، تواجه الولايات المتحدة أيضاً انقساماتها الداخلية، خاصة بين الشباب الديمقراطي والمستيقظ والمناهض للاستعمار. ويجب عليها أيضاً أن تواجه استجابةً صماءً داخل إدارتها، والأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، ويجب أن تدرك أن هذه الحصيلة: وفاة 88 من موظفي الأمم المتحدة، و36 صحفياً خلال هذا العدوان، وفي غضون فترة قصيرة هي حصيلة كارثية غير مسبوقة. كما أن حصار غزة في العصور الوسطى وقصف السكان المدنيين والبنية التحتية يثيران أيضاً تساؤلات حول القانون الدولي الذي من المفترض أن تدافع عنه هذه المنظمات. وعليه، فإن هذا المعيار المزدوج الذي تتبعه الولايات المتحدة، فيما يتعلق بمكانتها في المسارح الأخرى، والذي يضعف الغرب كثيراً، يضعف أيضاً، بطريقة غير مسبوقة، صرح المنظمات المتعددة الأطراف.
“صفر نقاط” عشية دخول الحملة الانتخابية
وهكذا، فإن سجل سياسة جو بايدن الخارجية كارثي، حيث تسببت الولايات المتحدة، ومعها حلفاؤها الغربيون، في تنفير جزء كبير من العالم العربي الإسلامي، وبقية الدول الجنوبية. في حين أن إستراتيجيتها كانت تتمثل في إعادة احتلال هذا “الجنوب العالمي” للتأثير على مواجهتها مع الصين. وفيما يتعلق بالحرب الأوكرانية، فإن الهزيمة في أوكرانيا على وشك أن يتم تسجيلها، خاصةً وأن هذه الحرب ستعزز الكرملين عسكرياً، وتحرم حلفاء الناتو من أسلحته. وفي الوقت نفسه، أدت العقوبات المفروضة على روسيا إلى إضعاف اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير، في حين تعزز وترسخ محور موسكو، بكين، طهران، أكثر فأكثر. وفي حال توسعت دائرة الحرب وتحولت إلى حرب إقليمية، فأي حلفاء سيواجه الأميركيون على كافة الجبهات؟ إنهم على خط المواجهة وحيدين، وأوروبا منقسمة وخاملة ولا يسمع أي صوت في معسكرهم.
وها هي القواعد الأمريكية اللا شرعية في سورية والعراق تتعرض لهجمات منتظمة، وعلى جانب البحر الأحمر، أعلنت لجان المقاومة في اليمن الحرب على الكيان المحتل بإطلاق صواريخ على “إيلات”، كما اشتعلت النيران في السودان المجاور، وهذا الصراع هو فشل أمريكي واضح آخر. وبينما كان من المفترض أن تؤدي الوساطة الدولية تحت رعايتهم إلى إحلال السلام، إلا أنها خلقت الظروف الملائمة للانفجار، وكانت العواقب كارثية أيضاً: ستة ملايين نازح، ومليون لاجئ، وآلاف القتلى الذين يستحيل إحصاءهم لأن الوضع فوضوي للغاية.
وفي الشرق الأوسط، كلما مرت الساعات، كلما تدهور الوضع، وإذا لم تتمكن الولايات المتحدة من التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة بسرعة ولم تجد حلاً سياسياً، فسوف يكون هناك حتماً حريق هائل، وسوف تغرق في منطقة ظنت أنها تخلصت منها لتركيز طاقتها ومواردها على معاداة الصين، وهذا فشل آخر جديد.
وسيبقى الكيان المحتل “كيان” أنشأته حركة الاستيطان، والتي سيستمر في التأثير على حمضه النووي السياسي وتحديد طبيعته الأيديولوجية، وسيبقى دولة فصل عنصري – كما أعلن عدد من منظمات حقوق الإنسان – بغض النظر عن كيفية تطور الوضع في غزة. ولكن رغم كل ذلك، لن يختفي الفلسطينيون وسيواصلون نضالهم من أجل التحرر واستعادة أراضهم المسروقة، إلى جانبهم العديد من المجتمعات المدنية، وشعوب العالم أجمع في مواجهة حكوماتهم التي تدعم الكيان وتمنحه حصانة لا مثيل لها.