انقلاب الصورة.. “إسرائيل” تخسر الرأي العام الغربي
د. معن منيف سليمان
شكّلت الحرب التي تدور رحاها بين الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة منعطفاً كبيراً في مسار القضية الفلسطينية عسكرياً وسياسياً، ولاسيما الرأي العام الغربي في سياق تعاطيه مع الملف. ومع انقلاب الصورة وسيطرة الرواية الفلسطينية وتأثيرها على الرأي العام، وازدياد انتشار صور مآسي العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في العالم، تتابع تل أبيب بقلقٍ شديدٍ تراجعاً ملحوظاً في معركتها أمام الرأي العام الغربي لتسويغ استمرار حربها على القطاع.
تدرك “إسرائيل” ودبلوماسيتها وأجهزتها الاستخباراتية، وعلى رأسها الموساد، أن جزءاً مهمّاً من الحرب في هذا الصراع الذي يطول كثيراً يتمحور بشكلٍ كبيرٍ حول الكيفية للحفاظ على رؤية معيّنة وسط الرأي العام العالمي، أي تقديم “إسرائيل” الضحية مقابل إبراز الفلسطينيين كإرهابيين رافضين للحلول الدبلوماسية. ونجحت “إسرائيل” منذ الخمسينيات من القرن الماضي حتى بداية هذا القرن في الحفاظ على هذه الفكرة، وخاصة في الغرب لعوامل منها استغلال “الهولوكست” إلى أعلى المستويات ثم الحرب الباردة نظراً لدفاع المعسكر الشرقي والأنظمة العربية التي كانت ترتبط به على الملف الفلسطيني.
لقد تفاجأت “إسرائيل” وعدد من خبراء الحروب بالقفزة النوعية التي حققتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة في فرض إيقاع جديد للمواجهة العسكرية. وكانت المفاجأة الثانية هي العودة القوية للقضية الفلسطينية إلى الساحة الدولية، ولعلّ العلامة الفارقة هذه المرّة أن التظاهرات التضامنية حدثت في عواصم دول أوروبا وأمريكا، وهذا يحدث لأوّل مرّة في تاريخ التضامن مع فلسطين.
ففي نيويورك وواشنطن ولندن ومانشستر وباريس وأمستردام وأوسلو وبرلين وغيرها، أدرك الرأي العام حقيقة حرب الإبادة ضدّ الفلسطينيين التي تشنّها حكومة الحرب الإسرائيلية، مستعينة بأحدث ما في ترسانة الأسلحة الأمريكية.
وكانت المظاهرات التي نظّمها طلاب عدد كبير من الجامعات الأمريكية، والعرائض التي تمّ التوقيع عليها بواسطة الآلاف، من المظاهر اليقينية التي تؤكد قوة الرأي العام المؤيد للحقوق الفلسطينية. وقد أدّت التحركات الطلابية إلى حالة من القلق والغضب بين زعماء الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، الذين اتفقوا على ضرورة سرعة مواجهة هذه التحركات، واستخدام ما يمكن وصفه بأنه سياسة “عقاب جماعي” ضدّ الطلاب وضدّ جامعاتهم التي يدرسون فيها، مثلما حدث مع المنظمات الطلابية في جامعة هارفارد، التي أصدرت بياناً تحمّل فيه السلطات الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن الاعتداءات الوحشية على غزّة، وتدعو إلى اتخاذ إجراءات فعالة لإنهاء حرب الإبادة ضدّ الفلسطينيين.
وأصابت الإسرائيليين صدمة كبيرة لمشاركة يهود حول العالم في تظاهرات داعمة لوقف إطلاق النار في غزّة ووقف الحرب، بعد بروز دور ملحوظ لجماعات يهودية في الولايات المتحدة ضدّ حرب غزة، في مظاهرات عمّت نيويورك وواشنطن وسان فرانسيسكو وغيرها.
لا شكّ أن هذا الموقف الإسرائيلي المدعوم بشكل مطلق من الولايات المتحدة ودول حلف الأطلسي، أدّى إلى توليد تيار شعبي مناهض للحرب في كلّ دول العالم تقريباً، يطالب بوقف استخدام القوة الغاشمة، وإنهاء حصار “إسرائيل” لغزّة وفتح أبواب السفر والانتقال للمدنيين بمن فيهم الأجانب. وقد بدأت تجليّات هذا التيار في الولايات المتحدة نفسها، وبين اليهود أنفسهم. ومع استمرار الحرب، فإنه من المتوقع زيادة قوته واتساع نطاق انتشاره في كل أنحاء العالم.
كما وصلت ردود الفعل المناهضة لسياسة الحرب الإسرائيلية إلى تشجيع العشرات من الأشخاص العاديين في مدن كثيرة غربية، على تمزيق أو تشويه الملصقات الإسرائيلية التي تطالب بإطلاق سراح المحتجزين لدى المقاومة التي تحمل صورهم وأسماءهم. هذه الملصقات يتمّ تمزيقها أولاً بأول في الشوارع، وكتابة كلمات أخرى على ما يتبقى منها بعد التمزيق أو التشويه، كما أن التعليقات التي تضاف إليها تندّد بالمحتل الإسرائيلي.
ومع ورود صور الدمار والقتل في قطاع غزّة عبر منصات السوشيال ميديا ووسائل الإعلام المستقلة، فإن الرأي العام الغربي بدأ يميل لمصلحة الفلسطينيين، فالصور التي تتألق في وسائل الإعلام الدولية هي صور القتل والدمار في غزة، وليست الصور القادمة من المستوطنات.
وفي هذا السياق فإن الرأي العام العالمي يشغل دوراً متزايد الأهمية، للضغط على السياسيين وصنّاع القرار لمنع أقذر حرب “إبادة بشرية” للمدنيين الأبرياء في القرن الواحد والعشرين، تحت أكبر مظلّة نيران يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. ولا يقصد بالرأي العام هنا مجرّد التحركات المؤيدة أو المناهضة للحرب في الشارع، وإنما يشمل المعنى كذلك مواقف المؤسّسات والجماعات والمنظمات والقيادات والشخصيات العامة غير الحكومية التي تشغل دوراً في إعادة تشكيل المواقف السياسية الرسمية من الحرب على مستوى العالم.
وبناءً على ذلك هل يؤدّي رفض الرأي العام في الدول الغربية لاستمرار الحرب في غزة إلى تغيير في سياسات حكوماته، بعد انقلاب الصورة وخسارة “إسرائيل” الرأي العام الغربي؟.