إرث بايدن سيبقى ملطخاً بدماء أطفال فلسطين إلى الأبد
هيفاء علي
بينما كثّف جيش الاحتلال الإسرائيلي هجماته على غزة الأسبوع الماضي، وشنّ الغارات على كل المستشفيات، مسبباً النزوح القسري لمئات الآلاف من المدنيين، سُئل جو بايدن عن فرص وقف إطلاق النار في قطاع غزة، فأجاب “لا احتمال”.
ومع حصيلة تتجاوز حتى الآن 13 ألف شهيد فلسطيني، بينهم 5500 طفل، فإن مدى انحراف جو بايدن العلني عن حرب الأرض المحروقة التي يمارسها حليفه نتنياهو، بهدف إبادة الشعب الفلسطيني، يتلخّص في اقتراحات مكتوبة بخنوع من أجل “وقفات إنسانية”. وبينما أشار وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى “سقوط عدد كبير جداً من الفلسطينيين وعانى عدد كبير جداً منهم في الأسابيع الأخيرة، ونريد أن نفعل كل ما هو ممكن لتجنّب إلحاق الأذى بهم وتعظيم المساعدة المقدمة لهم”، تحوّلت هذه العبارات المبتذلة المخادعة إلى بركة من الدماء عندما اقترنت بأفعال إدارة بايدن التي قدّمت الأسلحة والمعلومات الاستخبارية والدعم السياسي الثابت للعدوان الإسرائيلي لمحو وجود غزة كأرض فلسطينية من الأرض. وبينما يشنّ المستوطنون الإسرائيليون حملات إرهابية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، ظلت الولايات المتحدة تعيش عزلة عالمية، وصوّتت الأسبوع الماضي ضد قرار للأمم المتحدة المطالب بإنهاء المستوطنات كونها غير قانونية وتشكل عقبة أمام السلام.
دعا القرار، الذي حصل على 145 صوتاً مقابل 7، إلى الوقف الفوري والكامل لجميع الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبينما كانت عواصم المدن الكبرى في العالم مسرحاً لاحتجاجات ضخمة على نطاق لم يشهده العالم منذ غزو العراق عام 2003، انخرط نتنياهو في حملة إعلامية خاطفة في الولايات المتحدة، حيث ظهر في البرامج الحوارية على القنوات الأمريكية الرسمية لتبرير عدوانه السافر على غزة وعلى كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، مدعياً أنها تعادل الحرب العالمية الثانية.
ولم توفر آلة القتل والإجرام الإسرائيلية لا موظفي الأمم المتحدة ولا الصحفيين، حيث قُتل أكثر من 100 موظف وما لا يقلّ عن 40 صحفياً وإعلامياً في غزة منذ تشرين الأول. وعندما سئل مستشار الأمن القومي جيك سوليفان لشبكة “سي إن إن” عما إذا كانت “إسرائيل” تلعب وفق قواعد الحرب، أجاب بالتذكير بأن مبدأ الولايات المتحدة بشأن هذه القضية بسيط: “لإسرائيل الحق، بل والمسؤولية، في الدفاع عن نفسها”. وفي الوقت نفسه، تزيد الولايات المتحدة شحنات الأسلحة إلى الكيان الإسرائيلي، بعدما اقترح بايدن 14.5 مليار دولار كمساعدات عسكرية إضافية. وإدراكاً منهم للمعارضة المتزايدة للحرب الإسرائيلية في الداخل والخارج، وحتى داخل إدارتهم، سعى جو بايدن ومستشاروه إلى جعل الأمر يبدو وكأنهم يسعون إلى جعل التكتيكات الإسرائيلية أكثر اعتدالاً. إن الجهود المتزايدة التي يبذلها البيت الأبيض لتصوير نفسه على أنه يشعر بالقلق إزاء مقتل المدنيين وبذل كلّ ما في وسعه لحث الكيان الإسرائيلي على تجنّب ذبح المدنيين على نطاق صناعي، ما هي سوى محاولة لإخفاء دور الولايات المتحدة، باعتبارها الحليف المركزي لهذا الكيان الغاصب الذي سمح بارتكاب هذه المجازر، إنها لعبة بشعة لا تنجح إلا إذا كانت الحقائق والتاريخ لا أهمية لها.
في التسعينيات، عندما عزّز بايدن سمعته كعضو بارز في مجلس الشيوخ في مجال السياسة الخارجية، ساعد في إقرار قوانين وبرامج تمويل لصالح الكيان الإسرائيلي، وكان بايدن من أوائل المؤيدين لنقل السفارة الأمريكية في “إسرائيل” إلى القدس، وهو ما تمّ في نهاية المطاف في عام 2018 في ظل إدارة ترامب.
وفي عام 2001، وفي أعقاب الانتقادات العلنية النادرة من جانب إدارة بوش لسياسة الكيان الإسرائيلي المتمثلة في اغتيال القيادات الفلسطينية، دافع بايدن عما سمّاه حق “إسرائيل” في تنفيذ مثل هذه الاغتيالات، بل ووبّخ الرئيس جورج دبليو بوش لانتقاده لهم.
وفي تموز 2006، عندما شنّ الكيان الإسرائيلي عدوانه على غزة وجنوب لبنان، هلّل بايدن للعدوان قائلاً إن الإسرائيليين “فعلوا الشيء الصحيح في كلتا الحالتين، في غزة وجنوب لبنان”. وفي مواجهة الإدانة الدولية لوحشية الهجمات الإسرائيلية، دافع بايدن عن الكيان الإسرائيلي وشبّه العدوان على غزة ولبنان بالغزو الأمريكي واحتلال أفغانستان بعد هجمات 11 أيلول.
وبحلول آب 2006، كان أكثر من 1000 شخص قد سقطوا في ذلك العدوان السافر ضد جنوب لبنان، وتشير تقديرات منظمة اليونيسيف إلى أن 30% من الضحايا كانوا من الأطفال. خلال فترة توليه منصب نائب الرئيس، لعب بايدن في كثير من الأحيان دور استرضاء صديقه نتنياهو، الذي كان يكره الرئيس باراك أوباما بشدة. وخلال تلك السنوات الثماني، حافظ أوباما إلى حدّ كبير على الموقف الأميركي القديم المتمثل في إغداق الأسلحة وغيرها من المساعدات على الكيان الإسرائيلي، على الرغم من الخلافات السياسية المتكررة مع نتنياهو، ولاسيما بشأن إيران والمستوطنات الإسرائيلية.
بعد حرب غزة عام 2014 -الغزو البري الإسرائيلي الذي استمر سبعة أسابيع وأدى إلى مقتل أكثر من 2000 فلسطيني، وتسبّب في نزوح جماعي وتدمير البنية التحتية المدنية- تفاخر بايدن بكيفية وقوف إدارة أوباما بحزم إلى جانب الكيان الإسرائيلي ودافعت عن حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها. وفي أيار 2021، بعد أشهر قليلة من رئاسة جو بايدن، كثفت سلطات الكيان الإسرائيلي حملة التطهير العرقي ضد الفلسطينيين في القدس الشرقية، حيث قامت بإخلاء السكان قسراً من منازلهم التي صادرتها لمنحها للمستوطنين الإسرائيليين. ثم تصاعد الوضع الحارق خلال شهر رمضان الذي فرضته قوات الاحتلال الإسرائيلية على أحد أقدس الأماكن الإسلامية، المسجد الأقصى في القدس، حيث أصدر نتنياهو أوامر بشنّ حملة قصف ضخمة ضد غزة لمدة 11 يوماً، وضرب المباني السكنية ووسائل الإعلام والمستشفيات ومخيم للاجئين.
واستُشهد أكثر من 250 فلسطينياً خلال الحصار الإسرائيلي، بينهم عشرات الأطفال، وتمّ تهجير أكثر من 70 ألف فلسطيني، وفي أعقاب الهجوم الذي شنّته المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول، دافع بايدن وإدارته عن القصف الإسرائيلي المروع على غزة، وتمّ تسريع وتيرة تسليم الأسلحة الأمريكية، ووصف بايدن اقتراحه بتقديم دعم عسكري إضافي بأنه “التزام غير مسبوق بأمن إسرائيل”.
مما لا شكّ فيه أن هذه الأزمة عزّزت إرث جو بايدن كواحد من أعظم المدافعين الأمريكيين عن جرائم الكيان الإسرائيلي، بما في ذلك الهجمات على السكان المدنيين العزل في تاريخ السياسة الأمريكية. وفي واقع آخر، وبحسب المراقبين، فمن المرجّح أن يتم اتهام القادة الإسرائيليين بارتكاب جرائم حرب بسبب تدمير غزة، وقد استشهد باحثون بارزون في مجال الإبادة الجماعية وخبراء في القانون الدولي بتصريحات المسؤولين الإسرائيليين حول أهداف عملياتهم في غزة كدليل محتمل على “نية الإبادة الجماعية”. ووفقاً لبعض منظمات القانون الدستوري الأميركي، فإن محاولات المساءلة هذه لا ينبغي أن تركز فقط على القادة الإسرائيليين، فالولايات المتحدة هي الممول الرئيسي وتاجر الأسلحة للكيان الإسرائيلي، ناهيك عن المدافع السياسي عنها، حيث تحظر العديد من القوانين والمعاهدات الأمريكية دعم أو منع أنشطة الإبادة الجماعية. ومن بينها، قانون تنفيذ اتفاقية الإبادة الجماعية، الصادر عام 1988. ومؤخراً، رفع مركز الحقوق الدستورية دعوى قضائية اتحادية نيابة عن الفلسطينيين في غزة لمنع إدارة بايدن من تقديم المزيد من المساعدات العسكرية لـ”إسرائيل”. وكما جرت العادة، سوف يتنصل الزعماء الأميركيون أو الإسرائيليون من تحمّل المسؤولية عن أفعالهم أمام المحكمة، ومن المرجّح أن تظل أهوال الأسابيع الخمسة الماضية، التي مكنتها الولايات المتحدة، وصمة عار دموية ودائمة على نسيج مهنة وإرث بايدن السياسي.