“أشجار تتبعها طرقات”.. رواية مضمرة ضمن السرد
ملده شويكاني
“حينما أجد أحلامي تتوكأ على عصا الذكرى، لم أرَ المدينة في المدينة، حيث لا ملامح لها، وأكاد لا أجد نفسي وأنا المتعثر في طرقاتها”..
هذه المفردات خطّها الشاعر والأديب طلال الغوار في كتابه الجديد
” أشجار تتبعها طرقات” الصادر عن دار السرد في بغداد –2023- ويأتي من حيث السرد الممتزج بلغة الشعر استكمالاً لكتابه السابق “نداءات لصباحات بعيدة” في تجربة جديدة منه بعوالم فضاءات السرد، إلا أنه في كتابه الجديد يفاجئ القارئ بسردية جديدة تخفي ضمنها ما يشبه الرواية من حيث تعدّد الشخصيات ووصفها الدقيق، والتنقل بين الأمكنة والامتداد الزمني ومكاشفة الذات، وفي البعد التاريخي بالدمج بين الأحداث التي عصفت بتاريخ أمتنا العربية، وأهمها القضية الفلسطينية.
فمن دمشق إلى بغداد إلى دجلة إلى البحر الأبيض المتوسط إلى يافا، تمضي كلماته الممتزجة بندى الورود المحمّلة بأحاسيس شخوصه وهواجسهم مع تلاطم الأمواج الزرقاء من شاطئ إلى آخر، بالاتكاء على رموزه التي تعدّ عناصر أساسية في تجربته الأدبية، وخاصة الشجرة التي تعني الوطن بالنسبة إليه، لتصل للقارئ رسائله من العنوان.
وقد أبدى الكاتب ظهوره العلني بشخصية السارد بضمير المتكلم، ليكون الشخصية المحورية المحرّكة للشخصيات المساندة، ويتماهى بين زمني الحاضر والماضي.
ركن دائم بالقلب
يبدأ الكاتب من تأثير الكلمات التي تملك فاعلية السحر ليمتدّ شذاها إلى ذكريات قصة حبّ تعود إلى أيام الشباب إلى أربعين سنة خلت، وما زالت ذكراها غصّة بالروح، فيترك العنان ليتخيل القارئ صورة هذه الأنثى التي استطاعت أن تستحوذ على ركن دائم بالقلب: “لقد كنت أنت الذكرى، ملامحك، ابتسامتك، صوتك، قصائدك، كلماتك، مواعيدك، حبّك، أخبارك، كنت أنت وحدك الحاضر في غيابك”.
الخامس من حزيران
أما الأحداث، فمن مقهى القرنفلة في اللاذقية، يعود بذاكرته إلى مدينته تكريت إلى شخصية الصبي محمود جلعوط، وإلى الخامس من حزيران عام 1967 حين اندلعت الحرب مع “إسرائيل” رأيته بعيني يضرب الأرض برجليه غضباً، ويلوّح بمنديل ويهتف أسقطنا عشرين طائرة للعدو. ويتساءل الكاتب كيف لهذا العتال البسيط في السوق أن يتكلم عن سقوط طائرات العدو الصهيوني من قبل الجيش المصري بضمير الجماعة (نحن)؟؟، ليختزل تلك المشاعر: “هكذا كنّا نعيش حلم النصر والوحدة العربية”.
بين النهر والبحر
ومن زرقة مياه البحر اللامتناهية تأخذ الأمواج السارد -الكاتب- إلى مياه دجلة وبيت عائلته الطيني المطل على النهر: “وكأني تركت شيئاً من روحي هناك، لكن صوت طائر النورس أخرجني من قبضة الذكرى”.
وتدخل متن السرد امرأة في الأربعين تعرّف إليها الكاتب أثناء حفل توقيع كتابه ليترافقا بحوارات شعرية، وبشروده وبوحه لذاته بأوراق مختبئة بالقلب، فيتكرّر ذكرها ويستحضر حضورها الفعلي والافتراضي في مواضع متعدّدة من السرد.
البرلماني والجنرال
وبتداعيات واستطرادات يعود إلى بغداد إلى المقهى الشعبي في حي المنصور: “لا أحب الجلوس داخل بناية المقهى، حيث دخان السجائر الكثيف ورائحة النراجيل وتبغها، فصاحب المقهى استثمر الرصيف الذي أمام بناية المقهى”، فتتوالى عتبات السرد لوصف شخصيات عدة يرمي من خلالها الوصول إلى أبعاد بعيدة، مثل شخصية البرلماني: “يمرّ أمامي وهو يرتدي بدلة جديدة ولكنها فضفاضة، لم تكن على مقاسه، ويحيط به ثلاثة مسلحين، إنه ينتحل هيبة رجل دوله لكنه لم يجدها”.
ويقف إزاء شخصية ثانية لشاب في الثلاثين يضع رتبة جنرال، إلى صباغ أحذية يجلس على مقعد خشبي صغير، وتبدأ الحوارات السياسية بين الجالسين في المقهى يحللون من خلالها الأوضاع: “هكذا تعودوا منذ 2003 ليصبح الاتفاق مهماً بينهم كي يغدو النهب منظماً”.
ثقافة الإزاحة
فيعودُ السارد بالتعقيب: “هكذا تشاع ثقافة جديدة تعتمد أسلوب الإزاحة، فتزاح قيم البطولة بسلوك البهلواني والمخادع، وتزاح الرجولة بفتن وشطارة السارق، مثلما تزاح فكرة الوطن بتعميق الانتماءات الفرعية”.
النضال ضد الفرنسيين
ويعود إلى دمشق إلى المزة وإلى ساحة المحافظة إلى تمثال يوسف العظمة، فيستحضر النضال ضد الاحتلال الفرنسي، لينعطف إلى مقهى (هافانا) ومطر الخريف ينهمر.
الحرب الإرهابية على سورية
وبتورية يتناول الحرب الإرهابية على سورية: “نهار دمشق ليس كما عهدته قبل 2011″، فيصوّر الوجوه الحزينة التعبة في ساحة المرجة التي تعجّ باللهجات والأصوات إيماءة إلى العاصمة الخالدة دمشق التي تحتضن كلّ من يرغب من السوريين والعرب، ويمضي نحو الجسر الصغير فوق نهر بردى، وبانتقال مفاجئ يعود إلى بغداد والاحتفال بعيد العمال العالمي في الأول من أيار إلى عام 1959 الذي تحوّل في بغداد إلى الصراع بين المتظاهرين، فتظهر شخصية والده الذي أصيب برشقة رصاص في يده اليسرى فأسعفته الشرطة ونقل إلى المشفى ومن ثم إلى السجن، قبل ستين سنة، ما يشير إلى انتمائه إلى عائلة مناضلة.
السياسة الخاطئة والثقافة
ويأتي من الصفحات صوت السارد في التعقيب عن السياسة في ساحة الرصافي: “السياسة هنا تعني البحث عن السلطة وعن متعتها وإشباع الشهوات، أما الإنسان فليس إلا أداة لتحقيق هذه الغايات”.
وينهي الكتاب بمفهوم الثقافة المرتبطة بالسياسة الخاطئة التي أشار إليها، ويدعو بشكل غير مباشر إلى تنويع الثقافات والانتماءات تحت سماء الوطن الواحد: “ثقافتنا لم تعد قادرة على أن ترسم معالم الحياة التي نحلم بها دائماً أو تمثلنا كما نريد، حينما تزيح التنوع بالواحدية، وتزيح الهوية الجامعة بالانكفاء على الهويات الفرعية المفرقة والانتماءات الضيقة ويزاح اسم الوطن ويحلّ معه المكوّن”، وتبقى النهاية الشعرية بالرمز بالشجرة: “كيف لي أن أرى اسمي برعماً في غصن وأسميك شجرة الحب”.
وربما يكون الإصدار القادم لـ طلال الغوار رواية بين دمشق وبغداد.