قراءة نقدية في المجموعة الشعرية “أوّل الحب.. أوّل المعنى”
إذا كان الحب هو السائد والمهيمن والمسيطر، وهو الأساس الذي يتم عليه بناء القصيدة بكل وجوهها وبزوايا نظر مختلفة وثيم متنوعة، وهو القاسم المشترك فيها الذي يساهم في بث روح الجمال في البنية النصية، ويكشف ويفضح أي عارض من شأنه أن يشوه معنى الحب وحقيقته منذ أن خلق الله آدم وحواء عندما أغوته ليقضم التفاحة التي أخرجته من الجنة، إلا أن الشاعر طلال الغوّار في مجموعته الشعرية (أوّل الحب.. أوّل المعنى) يجعل هذه الخطيئة أوّل حب غرس في قلبيهما، لتبدأ الحياة على هذه العلاقة الإنسانية السامية بين المرأة والرجل، ويبدو لنا من خلال رحلتنا في فضاءات قصائده المتنوعة وكأنه كشاف ضوئي “أي الحب” يضيء الأماكن المعتمة ليظهر الشوائب والحالات التي تحول بين نموه واتساعه وانطلاقه، وتحده وتشوه معالمه الحقيقية في عملية غزو هوجاء نحو الطريق القاسي الخالي من قلب ينبض، وروح عاشقة، وفكر مشغول بالحبيب، وهو يصوغها بقصائد حافظت على وحدة الموضوع، وبرزت الثيمة وبمفردة منتقاة تنسجم والسياق الفني لكل نص شعري مثل: الكذب، النفاق، الخداع، الخيانة، كما أنه يكشف هؤلاء المزيفون الذين ينضوون تحت خيمته، إلا أنهم لم يعرفوا معناه، أو نهلوا من نبعه الصافي النزيه، وأن الحياة لا تسمو ولا ترتفع ولا يمكن لها أن تستقر إلا إذا كان الحب هو السائد في ربوعها، والمهيمن والحكم. عندها فقط تموت تلك الشوائب وتستقر سريرة الحياة ويعم الصفاء والخير والمودة أركان الدنيا، ومن اجل أن نخطو خطوتنا الأولى في عالم المجموعة الشعرية علينا أن نمر على قصيدة (أوّل الحب)
التفاحة التي أغوت بها حواء
أبونا آدم
فقضمها
هي أوّل العصيان
لكنّها، كانت أوّل الحب
هكذا ومن الوهلة الأولى سوف نكون مع الحب وهو يتلون ويتشكل في كل الحالات داخل تلك النصوص بين مضمر في النص، وبين مكشوف واضح الرؤيا، وهو يؤكد لنا وبشكل لا يقبل الشك أن كل إنسان على وجه هذه الأرض قد جرب الحب ولذته وحلاوته وشجونه وعشقه، وله محطة في أوّل حب، وأوّل معنى وسارت به ركب الحياة وانطوت أيامه وسنينه، لكن مادام في داخله قلب ينبض وعاطفة جياشة فإنه تواق إلى أن يعيش عمره كله وسط هذا العالم الجميل, وعندما نحس بهذا العالم حتماً أن النقيض يشكل حالة تهديد لابد من مواجهة، ونجد ذلك في قصيدته (أقنعة)
هكذا
اعتدنا عليهم
… حينما
سقطت عنهم الأقنعة
لم نعد نعرفهم
إن المحطات الأولى لتلك العلاقة الأزلية تمنح المرء حالة من الانشداد وتسيطر على وجدانه وكيانه فيشعر بلذتها في حله وترحاله، إن البنية النصية لقصائد الشاعر تجعل المتلقي هائماً مع عاشق ولهان يذكره بالحب والهيام، في قصيدة (شموس لم أرها) نبحر أكثر ونتوغل في أعماق هذا العالم الذي يحفزنا ويشدنا إلى الحنين:
هكذا أثقلت سنواتي
بالقصائد
وأنا أسير في كلماتها
كما لو أني أسير خلف غيمة
أثقلتها
بشموس لم أرها أبداً
وأنا أستعجل حب امرأة
كما لو أن الحياة
واقفة على طرف هاوية
وعندما نكون مسكونون بهذا الحب، ونعيشه كحالة انغرست في أعماقنا وألهبت نفوسنا وأججت دواخلنا، تتوهج هذه الرؤيا بمنظاره، حتى تكاد الظواهر التي تعكر صفوه أكثر بروزاً، وأكثر بشاعة وهذا ما نجده في قصيدة (مخادعون)
إنهم مخادعون
أولئك الذين يعذبون
الكلمات كثيراً
يسرجونها
ولا يركبون
حتى النظرة للوطن من تلك الزاوية تأتي بصورة ومفردات ورموز ودلالات داخل بنية النص مختلفة ولم نعتادها، كونها تنطلق من عمق هذا الإحساس وهذا ما نجده في قصيدة (رواية)
قيل:
إن الوطن شجرة
وارفة الخضرة
لكن…
يتفيأ ظلالها الأغراب
وهناك
رواية أخرى تقول:
يتفيأ ظلالها اللصوص
وفي رواية ثالثة:
أن الشجرة هربت من ظلها
حتى النظرة إلى الأب تختلف كونها تنطلق من هذا الكائن الجميل الحب، لتشكل مبناها النصي وتستمد جمالها من عمق معانيه الوارفة الظلال، وفي قصيدة (الطاعن بالحب والأقاصي) والتي نطوف بفضائها بين الحب وعاطفة الابن لأبيه وتلك الذكريات التي تبقى مع الابن إلى نهاية المطاف الحنين للأبوة:
أبي الذي
نزف كثيراً
من الطرقات
وكثيراً من المدن
نزف كثيراً
من الصحارى
وكثيراً من القصائد
والسنين
أبي الطاعن بالحب
وهكذا فكما أن للحب أول ننهل من نبعه العذب, فإن لهذا الحب آخر ولكنه ليس آخر النهايات, بل انه يعني نضوجه واكتماله ونموه وسموه، يضعنا الشاعر بعد خمسين سنة في هذا العالم من خلال قصيدة (آخر الحب)
بعد خمسين عاماً
أتفيأ بظل شجرتك
التي لم تعد وارفة
علني
ألملم بقايا ذلك الصبي
وهي تساقط من ثقوب الذاكرة
أن قصائد طلال الغوّار في مجموعته (أوّل الحب.. أوّل المعنى) لها مداخل عدة ومحاور مختلفة يمكن لنا الولوج من خلالها لسبر أغوارها ومعرفة غاياتها وبنيتها النصية، إلا أني وجدت أن الجانب المهم الذي يطرز معالمها هو الحب الذي كان سيد الساحة في تلك النصوص, ضمت المجموعة تسعاً وثلاثين قصيدة غطت كل نواحي الحياة، وجميعها نصوص تستحق الوقوف أمامها وتأملها طويلاً.!.
“أوّل الحب..أوّل المعنى”.. 2016 صدرت عن دار بعل- دمشق
يوسف عبود جويعد- العراق