غزة.. وسؤال (الجهاد) والمقاومة
د. عبد اللطيف عمران
تقع المقاومة في غزة اليوم في إطار نهج وثقافة وسياق، وهي جزء من قضية مركزية مستدامة، لا تنحصر بحركة ولا بمحور ولا بحزب، إنها قضية شعب وأمة، كانت وستبقى مركزية تاريخية شعبية أكثر منها رسميّة طارئة، بمعنى هي مبدأ وعقيدة ووجدان يتم تناقل همومها وآمالها وآلامها عبر الأجيال التي تتوارثها، مع مفاجأة أن هذا الإرث يشتد لهيبه عند الناشئة فلا يخبو ولا يهدأ، ولعل هذا هو سبب المضي في عدم يقظة الضمير الوحشي الصهيوني أمام مشهد آلاف القتلى (الشهداء) من الأطفال.
العالم اليوم في أربع جهاته مشغول بالحرب على غزة، فقد ولد مع هذه الحرب عديد من التساؤلات منها: متى تنتهي، ماذا بعد اليوم التالي، ما مستقبل محور المقاومة، ما دور الحركات الجهادية؟!. وتكاد تكون هذه الحرب الموضوع الأكثر حضوراً في الميديا العالمية اليوم نظراً لما فيها من وحشية لم تعرفها البشرية منذ الحرب العالمية الثانية. ولعل من أبشع صور هذه الوحشية التي لم يعرفها تاريخ الحروب هو النسبة الكبيرة جداً للضحايا من الأطفال، تلك النسبة التي لم تحرّك البقية الضئيلة الباقية من الوجدان والأخلاق عند أطراف العدوان العديدة، المباشر منها وغير المباشر، على غزة التي غدت منارة وهّاجة في حركة المقاومة العالمية في هذا القرن.
ولذلك لم يأتِ العدوان عليها من فراغ في هذا السياق، إذ تأكد للمؤسسات والأجهزة المختصة الصهيونية والأمريكية أن الهوّة تتسع بين الشباب الفلسطيني وبين المسؤولين في السلطة بشأن سؤال القضية المركزية ومآلاتها مع أوسلو وبعدها، وكذلك بين الشباب العربي وبين النظام الرسمي العربي بشأن هكذا اتفاقات، ما يجعل من صفقة القرن، والدبلوماسية الروحية والاتفاقات الأبراهامية، وفتح السفارات، سراباً قبل تحقيق سلام عادل وشامل، والشامل يتناساه البعض لأسباب.
الواضح أن طوفان الأقصى لم تكن في سياق المفاجأة وعدم التوقع، وغياب السبب والمبرر والهدف، والنتيجة أيضاً. فالغزّاويون اليوم مقاومون أصحاب حق وأرض، وأولياء دم، وليسوا جهاديين جوّالين عابرين.
المقاومة في غزة تقف بصلابة عزّ نظيرها أمام وحشية صهيونية عنصرية لا تكتفي بهدم البشر والحجر، بل تهدم معهما وتعتدي على كل قوانين ومواثيق وقرارات الأمم المتحدة بمؤسساتها ومنظماتها وأخلاقياتها، هذه المقاومة لم ولن تكتفِ بتمريغ وجه العسكرتارية الصهيونية بالتراب، بل هي بثباتها ومشروعيتها، مع شجاعتها، أثّرت في الرأي العام العالمي، وغيّرت فيه، وهذا واضح في أن عدداً غير قليل من مراكز الأبحاث الصهيونية والأطلسية يحصي يومياً تزايد عدد وحجم مشاهد الاحتجاج والتنديد في مختلف أرجاء العالم/ غير العربي للأسف/، ويبيّن أن هذا الرأي يشهد تحولاً غير متوقّع في نسبة مناصرة الغزّاويين 95% مقابل 5% للصهاينة: (من المذهل عدد المؤيدين للفلسطينيين في تظاهرات لندن وواشنطن.. وإدارة بايدن الحمقاء هي المدير الفعلي لهذه الحرب.. والإسرائيليون باتوا أمام موجة قلق كبرى من الناشئة العروبيين لم يعد يبددها الاطمئنان إلى بعض الحكومات العربية….)
فحركات المقاومة غير حركات الجهاد تلك التي جعلت، في جيلها الثالث، مفتاحها ومبعثها وحركتها بيد مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية والاستشراقية في الغرب . بينما المقاومة في هذه المنطقة، وخلال قرن من الزمن، تقاوم ثلاث موجات استعمارية: عثمانية – أوربية غربية – صهيو- أطلسية، وقد حققت انتصارين واضحين على الموجتين الأولى والثانية، رغم طموح طالع واضح ومقيت لعثمانية جديدة، وبائس لاستعمار غربي جديد وتابع أيضاً.
أما الموجة الثالثة من هذا الاستعمار فهي الأخطر لما تنطوي عليه من مظاهر وحشية متشابهة عند الصهاينة والأمريكان يجمعها مشابهةٌ في النزوع: الاحتلالي – الاستيطاني – الإبادي – الإحلالي مكان العرب والهنود الحمر، وهذا ما دفع إلى البحث والتأليف في (المعنى الأمريكي لإسرائيل)، ما يتطلب ويستوجب، بل يفرض أن تكون المقاومة، كنهج وثقافة، مصيراً واقعاً محتوماً ومكتوباً ومستداماً، وسؤالاً لا يغيب.
وأما سؤال (الجهاد)، والذي استقر منذ نصف قرن في أبحاث إستراتيجيّي الغرب، ودخلت مفرداته كما هي في العربية في معاجمهم وكتاباتهم (jihad )، فهو سؤال معقّد ومركّب، ويفرض تأصيل مفهومه مقاربة تاريخية نقدية لارتباطه (أساساً) بالثقافة العربية، وبالتشريع الإسلامي، و(فرعاً) بجيوبوليتيك الغرب، ولا سيما في موجته الثالثة مع قتال السوفييت في أفغانستان، وبالأخص مع ما سمي الربيع العربي، ومع تطوره من جهاد الرأي، إلى جهاد القلم، إلى جهاد السيف لكن ضد “العدو القريب” وصولاً إلى (التكفير والهجرة والتطرّف…)، ألا يستحق نتنياهو وبايدن من الجهاديين التكفير والهجرة؟!. بينما العدو في المقاومة هو ما اتصل وما يتصل بمشروع الصهيو –أطلسية المناهض للحق وللمصير وللوجود، هذا المشروع الذي يواجه اليوم تحدياً مصيرياً يتنامى فيه دور المقاومة في ضبط قواعد اللعبة وتحديدها وإلزام الأعداء بهذه القواعد، ما يدفع إلى مزيد من الأمل بالانتصار والتحرير.
وليس من فراغ اشتغال الميديا اليوم بالاستفهام الإنكاري عن دور الجهاديين الجوّالين في سورية والعراق ولبنان وليبيا… في نصرة القدس والأقصى، واليوم غزة، بالرأي أو بالقلم أو بالسيف. إنها وصمة عار تاريخية وملازمة، ولحظة انكشاف واضحة، فما السبب؟!.