آداب الأسرى الفلسطينيين وفنونهم
لم يكن اختيار فرسان السجون الصهيونية من قبل أكاديمية دار الثقافة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين للحديث عن آداب الأسرى الفلسطينيين وفنونهم في ندوة أقامها المركز الثقافي في أبو رمانة مؤخراً بإدارة الإعلامي محمد أبو شريفة إلا اختياراً استثنائياً لتجربة شخصيات لم يكن السجن بالنسبة لهم نهاية المطاف، بل بداية لحياة جديدة حلّقوا فيها بأحلامهم، فكسروا القضبان بأفكارهم الحرة التي عجز العدو عن اعتقالها كما اعتقل أجسادهم، وبيّن مدير الندوة أبو شريفة أن الحركة الأسيرة أدركت منذ بواكيرها أهمية تشكيل حراك ثقافي واسع، فسارعت إلى تعميد الانتماء الوطني بالوعي الفكري وتكريس المعرفة داخل المعتقلات والتي ميّزت الكثير من الأسرى في مجالات الثقافة والأدب والفن التشكيلي واللغات والسياسة والإعلام والصحافة.
كما أوضح الكاتب حسن حميد في تصريحه لـ”البعث” أن المفارقة كبيرة بين العدو الذي يعتقد أن السجون هي بروفة من أجل الموت وبين الفلسطيني الذي حوّلها إلى ثقافة حياة، فمن دخل إليها صغيراً تابع تعليمه فيها ونال أعلى الشهادات، ومنهم من خرج منها يجيد عدة لغات “فقد دخلوا إليها مناضلين وخرجوا مثقفين وكتّاباً وفنانين”.
قاتلوا وطوّعوا الصعاب
أجمع المشاركون “أحمد أبو السعود، تحسين الحلبي، محمد الركوعي” في الندوة والذين تحدثوا عن تجربتهم في الاعتقال لمدة طويلة جداً على أن السجان يملك كل شيء إلا التفكير واقتحام عوالم لا يستطيع أحد سواه أن يقتحمها، لتصبح حرية التفكير معادلاً موضوعياً للحرية الكبرى، حيث لم يتمكن السجان من كسرهم أو تحطيمهم، وقد منع عنهم النوم لكنه لم يستطع أن يمنعهم من الحلم، وعجز عن أن يوقف نبض الإرادة التي تداعب ما تبقى فيهم من توق إلى الخلاص والانعتاق، فبقوا أحياءً إلى اليوم بما امتلكوا من هذا الشعور المقاوم لليأس والمحبّ للحياة، فنجوا حين قاتلوا وطوّعوا الصعاب ونسجوا مع الزمن الطويل في المعتقل علاقة إنسانية وحوّلوه إلى مدرسة ذات ألواح وأقلام وكتب، وأبدعوا في التعليم والتعلم، فمنهم من أتقن خمس لغات داخل السجن مثل تحسين الحلبي وعطا القيمري وحلمي الغبن، وأسّس بعضهم مراكز دراسات متخصصة في شؤون العدو بعد التحرر من الأسر، وكتب العديد منهم في الشعر والقصة والرواية وأدب المعتقلات، وبرز بعضهم في مجال البحث والفكر، حيث يُعدّ الأسير وليد دقة من أبرز مفكري الحركة الأسيرة، وله العديد من المقالات والكتب، كما كان للفن التشكيلي حضوره المميز على أيدي فنانين تشكيليين مبدعين تواجدوا في المعتقلات، منهم محمد الركوعي وزهدي العدوي وعلي النجار ومحمود عفانة وغيرهم، مؤكدين أن الأسرى شكّلوا في السجون الصهيونية رافداً مهماً وأساسياً للثورة والوطن، وخرج الكثير منهم مناضلين وأصحاب كفاءات ومبدعين.
300 لوحة في السجن
وأشار الفنان التشكيلي محمد الركوعي الذي ولد عام 1950 في منطقة الرمال في غزة، وقضى مرحلته الأولى في مخيم الشاطئ، وعمل مدرّساً في المدارس الثانوية هناك، ونال الجائزة الأولى على قطاع غزة عام 1971 واعتُقِل عام 1973 وحُكِمَ عليه بالسجن المؤبد في معتقل عسقلان الصهيوني في فلسطين، قضى منها 14 عاماً كانت المخيلة فيه تضجّ بالرسم والألوان، حيث رسم فيه أول لوحة صغيرة على طرف رسالة بيضاء، وصار بعدها مع كل رسالة يرسلها إلى والدته يرسم رسوماً بسيطة، وبعد ذلك صار يرسم على مناديل قماشية بيضاء بسرية كاملة، وفي أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات بلغت أعماله 300 لوحة أخرجها دون علم إدارة المعتقل، فقامت بعض المعارض الوطنية بعرضها ونالت إعجاباً وتقديراً وشهرةً امتدت إلى العالم، وفي العام 1984 قبل الإفراج عنه أقام له المركز الثقافي الروسي بدمشق معرضاً تكريمياً لأعماله، وفي العام 1985 أُطلق سراحه في عملية تبادل أسرى في جنيف، فقدم إلى دمشق، ومنها بدأ توسعه مع الفن، وهو اليوم يدير مركز الجليل للفنون اليدوية الفلسطينية والتراث الشعبي.
محارب متسلح بأدوات المعرفة والثقافة
وأكّد تحسين الحلبي الذي اعتقل عام 1967 وأمضى سنوات طويلة في السجن أن الأسرى الفلسطينيين رفضوا أن يقضوا سنواتهم في السجن بلا جدوى، فمنهم من لجأ إلى الرسم وصنع لوحات، ومنهم من تابع تعليمه ونال أعلى الشهادات، ومنهم من لجأ إلى الكتابة بعد أن حوّل الأسرى السجنَ إلى مدرسة، وأنه وبعد سنوات طويلة من الاعتقال في السجن أصبح محارباً قوياً متسلحاً بأدوات المعرفة والثقافة والأدب، جعلته شاعراً وصحفياً وإعلامياً وخبيراً في شؤون العدو بعد أن كان محارباً قوياً متسلحاً بأدوات المعرفة والثقافة والأدب، مشيراً إلى أن نواة مدرسة الوعي داخل معتقلات (إسرائيل) بالنسبة له كانت مع الأشهر الأولى من اعتقاله عام 1968 ما دفعه والأسرى معه إلى الحفاظ على الكتب رغم محدوديتها عدداً ونوعاً، وقد كانت الورقة والقلم كنزاً إن توفرا، منوهاً بأنه أتقن اللغة الإنكليزية فيه، وما زال يذكر كيف حاول مرة ترجمة نبأ عثر على قصاصته من صحيفة ممزقة في السجن الذي قرأ فيه أيضاً ديوان شعر لسميح القاسم بعنوان “دمي على كفي” والذي حفظه الأسرى عن ظهر قلب، مشيراً إلى أنه وثّقَ في كتابه “اثنا عشر عاماً في الأسر” تلك السنوات التي عاشها في السجن، كما كتب قصائد شعرية مثل: /وكم ظنوا بأنك لم تعد تقوى.. لفيض جراحك الكبرى.. فهبت فيك معجزة.. بعثت بثورة أخرى/.
ومضات من خلف القضبان
وتحدث أحمد أبو السعود طويلاً عن تجربته في السجن الذي أمضى فيه نحو 27 سنة من عام 1980-2011 وقد أصدر كتاباً بعنوان “ومضات من خلف القضبان” بعد تحرّره من سجون الاحتلال، وعنه قال: “في السنوات الأخيرة قبل التّحرر، وتحديداً عام 2007 كان هناك شباب في الانتفاضة يسألوني دوماً عن السجن ويطالبونني بكتابة تجربتي في الأسر لأنها ليست ملكي وحدي إنما ملك الجميع، فكتبت عن تجربتي الشخصية ولكنني لم أنجح، وكتبت عن التجربة بشكل عام في الوقائع والأحداث والتطورات والنشاطات للحركة الوطنية في الأسر وحياة الاعتقال من مختلف جوانبها، إضافة إلى مقترحات تحاول وضع الحلول المناسبة لمناحي حياة الاعتقال كافة”، وكيف أنه بعد التحرر من السجن اختار سورية بعد أن حُكِمَ عليه بالنفي ليعيش مع أبناء شعبه في المخيمات، وفيها لم يشعر أنه مبعد بل شعر أنه في وطنه، وكان هناك تقاطع وتشابه كبير بين دمشق ونابلس، فكانوا يطلقون على نابلس قديماً الشام الصغرى لما بين الحارات القديمة في المدينتين من تشابه.
وخُتِمَت الندوة بمداخلة من قبل أ. عبد الفتاح إدريس رئيس الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الفلسطينيين -فرع سورية- بإشارته إلى أن السجن خرّج كتابّاً وأدباء ومثقفين عُرِضَتْ إنتاجاتهم في معرض الكتاب في مكتبة الأسد الوطنية وكانت تجربة ناجحة شهدت إقبالاً كبيراً ولفتت انتباه الزوار، مؤكداً أنه من واجب الاتحاد أن يشكّل جمعية خاصة تتابع إنتاجات الأسرى للعمل على نشرها.
أمينة عباس