حروب المضائق .. باب المندب نموذجاً
ريا خوري
يتمتع مضيق باب المندب بموقع جيواستراتيجي عالمي كونه يمثل البوابة الجنوبية للبحر الأحمر، وهو بحر له أهمية إستراتيجية خاصة في مجال الملاحة البحرية، حيث يصل عبر مضيق باب المندب بخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي، ويشكل حلقة مهمة في الطريق التجاري البحري العالمي الأقصر والأقل تكلفة، الذي يربط شرق آسيا بالقارة الأوروبية .
من هنا سعت العديد من الدول المتنافسة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً على تعزيز نفوذها بإنشاء قواعد عسكرية بالجزر والأرخبيلات الصغيرة والدول المتشاطئة معه، واستغلال التحكم والسيطرة بالمضيق، وإغلاقه في وجه الخصوم والأعداء عند الحاجة، فازدادت أهميته وأصبح ورقة رابحة في النزاعات والحروب ،مما جعله ساحة للصراعات الدولية والإقليمية.
وكانت اليمن قد شهدت حروباً دامية عندما كان اليمن الشمالي واليمن الجنوبي عام ١٩٧٩، كما حدثت معارك أمريكية طاحنة في الصومال في شهر تشرين الأول عام ١٩٩٣ من أجل السيطرة على باب مضيق المندب لما له من أهمية إستراتيجية ، فقد اعتبر الجغرافيون المضيق بأنها قناة تربط ما بين البحر الأحمر والمحيط الهندي .
الجدير بالذكر أنه في عام 2006 مرّ عبر مضيق باب المندب عدد كبير من السفن الضخمة المحملة بأكثر من أربعة ملايين برميل من النفط. وهذه الكمية تمثّل حوالي 7.5% من كل ناقلات النفط العملاقة في العالم في ذلك العام. هذه الأرقام تعتبر قليلة بالمقارنة بما سجله مضيق هرمز من تدفق تجاري والذي عبر من خلاله نحو أربعين بالمائة من حاملات النفط العملاقة في العالم، ولكن بسبب معركة النفوذ على مضيق هرمز الهام ترغب الدول المجاورة بسط نفوذها على مضيق باب المندب كبديل، لأنّ الكيان الصهيوني لديه نفوذ قوي في باب المندب من خلال عمليات التنسيق مع أثيوبيا وجيبوتي، لكنه خسر بعض نفوذه بسبب تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة من المراحل .
يذكر أن اليمن كان قد أغلق المضيق في وجه الكيان الصهيوني في أثناء حرب تشرين التحريرية عام 1973، إلا أنه قد لا يكون قادراً على إغلاقه مرّة أخرى نتيجة عدم التوازن العسكري .
الواضح تماماً أنّ التنافس من أجل السيطرة على مضيق باب المندب والبحر الأحمر يعتبر جزءاً من صراع إقليمي، إذ أن هذا المضيق عبارة عن ممر مائي طبيعي ويبلغ عرضه نحو ثلاثين كيلومتراً، يمتد من (رأس منهالي) على ساحل القسم الآسيوي، إلى (رأس سيّان) على ساحل القسم الأفريقي. أما جزيرة بريم اليمنية فإنها تقع في مدخل مضيق باب المندب الجنوبي، وتقسم المضيق إلى قناتين:
- قناة تسمى (دقة المايون) : وهي القناة الأكبر، وتقع إلى جهة الغرب، وهي متاخمة للسواحل الأفريقية، ويبلغ عرضها نحو خمس وعشرين كيلومتراً، وعمقها ثلاثمائة وعشرة أمتار على وجه التقريب .
- قناة ( إسكندر) : وهي الأصغر بين القناتين، وتقع بمحاذاة البر اليمني، إلى جهة الشرق، ويبلغ عرضها نحو ثلاثة كيلومترات، وأقصى عمق لها ثلاثين متراً.
لقد شكّلت حرية الملاحة في البحار والمحيطات والمضائق البحرية أهميةً كبيرة لدى مختلف دول العالم، الأمر الذي استدعى تنظيم عملية الإبحار من خلال عقد اتفاقيات دولية معترف بها عالمياً، لاسيما اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والمعروفة أيضاً باسم اتفاقية قانون البحار أو معاهدة قانون البحار. وهي اتفاقية دولية نتجت عن مؤتمر الأمم المتحدة الثالث لقانون البحار (UNCLOS III) التي وقعت بين عام 1973 وعام 1982. وحدّدت الاتفاقية مسؤوليات وحقوق الدول فيما يتعلق باستخدامها لبحار ومحيطات العالم، ووضع مبادئ توجيهية للأعمال التجارية والبيئة وإدارة الموارد الطبيعية البحرية. كما تناولت بالتفصيل حق المرور العابر والبريء في المضايق والممرات الدولية، والالتزامات المفروضة على الدولة التي تطلّ على المضيق، وعلى الدولة التي تتبع السفين، أو الطائرات، وتلتزم بالقوانين المعمول بها عند ممارستها حق المرور العابر، أو المرور البريء.
كما لعبت وكالة متخصصة تابعة لهيئة الأمم المتحدة، وهي المنظمة البحرية الدولية ، دوراً بارزاً بالإضافة إلى هيئات أخرى مثل الوكالة الدولية لصيد الحيتان والسلطة الدولية لقاع البحار (ISA) التي تم إنشاؤها بموجب الاتفاقية نفسها. وكان مضيق باب المندب، ولا يزال، شريان التجارة الدولية بين القارات في العالم ، ويعتبر ثالث أهم مضيق في العالم بعد مضيقي ملقة الذي يقع في جنوب شرق آسيا بين شبه جزيرة ماليزيا وجزيرة سومطرة الأندونيسية، ويصل بين بحر (أندمان) في المحيط الهندي من جهة الشمال الغربي، وبين بحر الصين من جهة الجنوب الشرقي.
كما يعتبر مضيق هرمز، من المضايق الهامة، ويقع في منطقة الخليج العربي حيث يفصل ما بين مياه الخليج العربي من جهة ، ومياه خليج عُمان وبحر العرب والمحيط الهندي من جهة أخرى، وهو المنفذ البحري الوحيد للعراق والكويت والبحرين وقطر.
ويمرّ في هذا المضيق يومياً نحو سبعة ملايين برميل ، من النفط الخام والمنتجات البترولية المكرّرة. إضافةً إلى عدد كبير من السفن التجارية الضخمة، المحلية والإقليمية والدولية، وأساطيل من السفن العسكرية، والسفن السياحية ، وسفن الصيد . حيث يقدّر عدد السفن التي تمر عبره بأكثر من واحد وعشرين ألف سفينة سنوياً، ويقدر حجم الشحنات التي تمر عبر المضيق بنحو ٧٠٠ مليار دولار أمريكي، سنوياً، ويُعتبر من الممرات الدولية الهامة والأكثر ازدحاماً، لأنّه ممر شبه رئيسي بين قارة آسيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية، إذ إن الطريق البديل لهذا المضيق هو الدوران حول قارة إفريقيا على طريق الرجاء الصالح، وهذا يتسبب بتكاليف باهظة جداً على شركات السفن، وشركات التأمين ، كما يتسبب بتأخر وصول الشحنات والبضائع والسلع والنفط ومشتقاته من بلد المنشأ إلى بلد المصب.
وبعد وقوع الحرب على قطاع غزة في السابع من شهر تشرين الأول الماضي، أعلن لويد أوستين وزير الدفاع الأمريكي، عن إطلاق عملية عسكرية بحرية متعدّدة الجنسيات لحماية التجارة( العالمية) في البحر الأحمر. وقال إنّ الدول المشاركة تشمل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا والبحرين والنرويج وهولندا، وإسبانيا، وكندا . وفي الواقع ثمة قوة دولية مؤلفة من ألفي جندي من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الحليفة لها، تعمل في منطقة القرن الإفريقي، ومضيق باب المندب، وبحر العرب، تحت عنوان عملية (الحرية الدائمة للملاحة في القرن الإفريقي وباب المندب) ، وهذه القوة متواجدة منذ منتصف العقد الأول من هذا القرن، كما تملك اليابان، وهي دولة حليفة للولايات المتحدة الأمريكية ، قاعدة عسكرية في جيبوتي، وهي أول وأكبر قاعدة لقوات الدفاع الذاتي اليابانية وراء البحار. وقد تم إنشاؤها بهدف حماية السفن والتجارة البحرية اليابانية التي تعبر خليج عدن، وباب المندب. لكن يبدو أن كل تلك القوى بدت أنها ضعيفة، وغير قادرة على صد، أو التعامل مع بطولات لجان المقاومة الشعبية في اليمن، ما دفع العديد من شركات الملاحة الدولية إلى تغيير مسار سفنها من البحر الأحمر، إلى رأس الرجاء الصالح.
مما لا شك فيه أنّ هذه أول مرة في التاريخ الحديث والمعاصر، تعلن شركات نقل بحرية عالمية ضخمة عن وقف رحلاتها عبر البحر الأحمر، ما يدل دلالةً واضحةً على وجود خطورة كبيرة هناك، لكن من غير المعروف أنه هل ستملك القوة العسكرية الأمريكية الجديدة القدرة على تثبيت الاستقرار والأمن بشكل كامل في مضيق باب المندب والبحر الأحمر ؟ ذلك أن اشتداد الحرب هناك قد يؤدي إلى إغلاق هذا الممر الحيوي بشكلٍ كامل، ما سيمنع مختلف السفن من العبور وهذا سيؤدي إلى شلل في التبادل التجاري والاقتصادي البحري العالمي، وفي هذا الوقت أيضاً ، بدأت أقساط ورسوم التأمين على السفن التي تمر من البحر الأحمر باتجاه المحيط الهندي وبحر العرب ومضيق هرمز والسفن المتجهة إلى الخليج العربي عبر مضيق باب المندب تعاني من نتائج مخاطر الحرب ب(الارتفاع) كما هو متوقع ، ومع إعادة توجيه السفن إلى مسار جديد يمر حول كامل القارة الإفريقية ، عندها ستصبح إمدادات الشحن البحري أقل، لأن الشحنات التجارية تبحر لفترة أطول حيث ستزيد مسافة الطريق نحو ستة آلاف كم . وهذا من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بشكلٍ كبير ، لاسيما أسعار الطاقة من نفط وغاز، وهذا سيؤدي أيضاً إلى زيادة المصاعب الاقتصادية في الغرب الأوروبي ، والعالم بشكلٍ عام .
بعد كل تلك التطورات ما زال العالم يراقب مجريات الأحداث بخاصة بعد قصف سفينة بريطانية تعود ملكيتها للكيان الصهيوني . وربما قد نشهد تطوراً للصراع في المنطقة لأنّ معدلات الهجمات والاستهدافات للسفن بمختلف أنواعها وانتماءاتها ما زالت في ارتفاع وتصاعد، ومن الممكن أن يتم إغلاق المضيق بالكامل، وهذا أمر سيزيد من تعقيد ظروف العمل التجاري الدولي، وسيزيد من الاستقطابات والتكتلات الدولية. كما أن المجتمع الدولي لا يرغب في التصعيد الذي قد يؤدي إلى توسيع دائرة الصراع إلى حرب أكبر تكون بداية تكوين نظام دولي جديد.