الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الرطانة.. ثقافة لغيرنا

حسن حميد     

تروي الأسطورة الإغريقية عن أثينا عاشقة الموسيقى أنها تحالفت مع ديميترا “آلهة” الخصب والزراعة والأشجار والثمار لكي ترشدها إلى الأشجار والنباتات والكائنات القادرة على إسعاد البشر بالموسيقى. فكان أن أرشدتها إلى جهتين اثنتين الأولى هي “الميوسات” جمع ميوسة، وهن يعشن في البحار، وطبيعتهن قائمة على إغواء البحّارة وجذبهم إليهن، ومن يفلت من بين أيديهن كان يفلت كي يتحدث عن سحر الموسيقى، لكن عدد هؤلاء كان قليلاً، لأن موسيقاهن مؤثرة وساحرة وجاذبة وتغلق الجهات على البحّارة الذين صاروا في عداد الأسرى.

أمّا الجهة الثانية، فكانت أجمات القصب التي تحيط بالنهر العظيم المبارك، ولم يكن النهر العظيم المبارك سوى نهر الأردن المقدس، الهابط بكامل غضبه من الجبل الشيخ. ولأنّ الخوف كان السياج الحامي لـ”الميوسات” في أعماق البحر، فإنّ أثينا، لم تخاطر بالذهاب إليهن من أجل أن تمنح البشر أسرار الموسيقى وآلاتها التي تشيع الفرح والسعادة والبهجة في القرى والبلدان، ولم تخاطر بالذهاب إليهم لأنها كانت بحاجة لإشارة رضا من بوسيدون “آلهة البحار”، وعلاقتها به لم تكن حسنة، لهذا طلبت من هرمس “رسول الآلهة” أن يأتيها بحزمة من قصب نهر الأردن العظيم المبارك، وفي فصل الصيف يوم يكون القصب محتشداً بالرنين، وخالياً من الرطوبة، فحقق لها هرمس أمنيتها فصنعت من تلك الحزمة “شبابة الراعي” ذات القصبة الواحدة متعددة الثقوب، فصارت (الشبابة) ثاني اثنتين تحاورهما البراري: الرعيان والنايات، لا بل قالت الأسطورة، إن النباتات، والأعشاب والأزهار تنمو أطوالها، وتحلو ألوانها، وتشيع روائحها، وتبهج رؤيتها بالموسيقى، والأغنام يزداد حليبها، وتطول أصوافها، وتكثر لحومها، وتصير زينة البراري بالموسيقى، كما أنّ الرعيان يتخففون من التعب اليومي بالموسيقى، وينشدون أحلامهم، ويتذكرون ما أهمّهم وأغمّهم، وأفرح قلوبهم بالموسيقى، وأنّ بان “آلهة الرعب” صنع من حزمة القصب، مزمار القصب، وهو بقصبتين رفيعتين متلاصقتين بشمع أقراص العسل “المجوز” الذي كان عزفه يطرد الخوف والرّعب من الغابات التي تغشاها قطعان الماشية.
وتقول الأسطورة الإغريقية أيضاً، إنّ غضب النهر العظيم المبارك، نهر الأردن، ما كانت توقف ثورته القرى، والصخورُ، والحجارةُ المعمورة التي أحاطت بضفتيه، ولا أشجار السنديان والملول والدلب والخروب والتوت الخرافية، ولا الأدعية، لهذا خاض أهل الجليل الفلسطينيون تجربتين في عالم الزراعة، صارتا أسطورتين وأكثر، تناقلتهما الشعوب في جميع أنحاء المنطقة التي تحيط بالبحر الأبيض المتوسط، هاتان التجربتان هما، حفر الحفرة المهولة الأولى، التي صارت بحيرة الحولة، التي احتضنت الماء الفائض من غضبة نهر الأردن، وقد هدأت القرى حولها، واطمأنّت لوقت ما فقط لأن صاحب الغضب، نهر الأردن، زاد من جرعة غضبه، بعد أن طلب من الجبل الشيخ، أبيه، مضاعفة عطائه، فأجابه، لهذا راح يكزّ على القرى ، والناس، والحيوانات، والحقول، والبساتين، كزّات الغضب، لذلك قام أهل الجليل الفلسطينيون بالتجربة الزراعية الفذّة الثانية، فحفروا حفرة مهولة في مكان كان غابة للرعب والخوف والغرق، هو ما سموه بحيرة طبريا التي استوعبت ماء النهر العظيم الفائض، إلى حدّ أن أهالي أريحا جاؤوا وفوداً إلى قرى الجليليين راجين أن يتركوا القليل من نهر الأردن لكي يحلّي ماء بحر “لوط” الذي صارت أملاحه جبالاً…
بلى، إنني أروي هذا الآن، وفي وقت (طوفان الأقصى) والحرب التي يشنّها الاسرائيليون على الفلسطينيين، من رفح إلى رأس الناقورة، ومن أريحا إلى عكا، ومن نابلس وجنين إلى الخليل وأم الرشراش، ليس من أجل تذكير أهلنا بالتعب الذي أثقل حياة أجدادنا حتى جعلوا بلادنا صوراً بهّارة للخضرة من بيارات وحقول وطمأنينة ومؤانسة، وصوراً لما تعطيه أيدي الحذق البّارقة بخيالها، وصوراً للكتب التي أُلّفت بجوار عواميد المساجد والكنائس لتهب العالم المعارف التي ما كانت لتخطر ببالهم في ذلك الوقت، فهذا معروف لأبنائنا، ورثة التعب والإخلاص، وهم لم ينتسبوا إلى المدارس الابتدائية بعد، وشاهدي، هو ما يراه العالم في الصور المبثوثة لأبنائنا في قطاع غزة، وقلقيلية، وجنين، وأريحا، والخليل، والقدس، ليس في وقت الحرب المجنونة هذه، وإنما في وقت “السلم”، إنني أروي هذا لأعدائنا الذين يعربدون بممارساتهم، وأقوالهم، وعنترياتهم، لأقول لهم، حين كان الفلسطيني يزرع القصب حول نهر الأردن العظيم المقدّس، كانت بلاد الإغريق لا تعرف ما هي الموسيقى، وحين كان الفلسطيني يبني المعابد لبعل وعناة، ويكتب الكتب، ويجري الحكمة على الألسن، ويقدّم القرابين.. كان البشر يجولون في المناطق مثل الغجر طلباً للطعام والشراب والأمان.
وحين كان الفلسطيني يصنع من النباتات الألوان من أجل تزيين أظفار النساء، كان الكثير من البشر يأكلون هذه النباتات، وحين طرّزت نساء الفلسطينيين الأثواب، كانت أغلبية البشر لا يقتنون الثياب بعد، وحين بنى الفلسطيني معاصر الزيت، والطواحين على أكتاف نهر الأردن العظيم المقدّس، كان العديد من البشر لا يعرفون أنّ الزيتون يعطي زيتاً، كما كانوا يدقّون القمح المبلول بالمطارق الحجرية.
أقول هذا لأعدائنا الإسرائيليين الذين لا يريدون قراءة صفحة واحدة كتبها أجدادنا تاريخاً لهذا البلاد، وأقوله لهم أيضاً، لكي يعرفوا، أنّ العناد الوطني جينات متوارثة، وأن لا وطن لنا يعيش فينا، وتدقّ له قوبنا، سوى فلسطين، وليعرفوا أيضاً أنّ رطانات كثيرة، وليست رطانة واحدة، سمعناها طوال 75 سنة، وقد حيّدناها جميعاً، لأنّ هذه البلاد الفلسطينية تعشق موسيقى نايات قصب نهر الأردن الصّافية، أما الرّطانة.. فهي ثقافة لغيرنا.

Hasanhamid55@yahoo.com