دراساتصحيفة البعث

جنوب إفريقيا تفرض على “لاهاي” النظر في الإبادة الجماعية لأهالي غزة

طلال ياسر الزعبي

“الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لأي جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية في حدّ ذاتها، كقتل أعضاء هذه المجموعة، أو التسبّب في إصابة جسدية خطيرة أو اضطراب عقلي لأعضائها، أو خلق ظروف معيشية متعمّدة لمجموعة مصمّمة لتدميرها كلياً أو جزئياً، أو التدابير الرامية إلى منع الحمل بين هذه الفئة، أو النقل القسري للأطفال من جماعة بشرية إلى أخرى”.

هذا تعريف الإبادة الجماعية حسب اتفاقية الأمم المتحدة الموقعة عام 1948، وهو ينطبق تماماً على ما تقوم به “إسرائيل” في غزة منذ نحو 100 يوم هي عمر العدوان الصهيوني المتواصل على المدنيين هناك، وهذا بالضبط ما استندت إليه جمهورية جنوب إفريقيا في دعواها المقدّمة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي.

وليست المشكلة طبعاً في مسألة تحقّق شروط الإبادة الجماعية في العدوان الذي تشنّه “إسرائيل” على قطاع غزة المحاصر، لأن ذلك قد تأكّد للجميع، بل تكمن في أن العالم الغربي مجتمعاً شريك في الجريمة، وبالتالي فإن أيّ محاولة لإدانة الكيان الصهيوني عبر هذه المحكمة ستجد معارضة شديدة من الغرب الجماعي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، وحتى لو تمكّنت هذه المحكمة بعد سنوات من إثبات إدانة “إسرائيل” بارتكاب هذه الجريمة، فإنها لا تملك الآليات لتطبيق العقوبات على هذا الكيان الذي يتمتع بحماية غربية كاملة، وبالتالي لن يكون هناك ضمن الواقع الحالي في مجلس الأمن آلية تمكّن من إنزال أي عقوبة به، إلا إذا تغيّر النظام العالمي بالكامل بشكل يتيح للنظام الجديد تطبيق هذه العقوبة.

وفي هذا الشأن، يشدّد إريك دي براباندير أستاذ القانون الدولي في جامعة لايدن على أنه “يجب القبول بمحدودية العدالة الدولية، فهي تعمل لكن فعاليتها تتطلّب إرادة سياسية لا تكون متوافرة على الدوام”.

وتعدّ دعوى “الإبادة” التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد “إسرائيل” تاريخية، حيث أرسلت جنوب إفريقيا عدداً من أبرز محاميها إلى لاهاي من أجل مواجهة قانونية في محكمة العدل الدولية، لإجبار “إسرائيل” على وقف هجومها الدامي على قطاع غزة، الذي خلف أكثر من 30 ألف قتيل ومفقود ومئات آلاف الجرحى والمشرّدين.

والدعوى التي ترفعها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية مدفوعة بأسباب تاريخية، إذ يرى حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” الحاكم والداعم للقضية الفلسطينية أن هناك رابطاً بينها وبين كفاحه ضد حكومة الأقلية البيضاء التي كانت تقيم علاقات تعاون مع “إسرائيل”.

وعُرف عن رمز الكفاح ضد الفصل العنصري نيلسون مانديلا قوله: “إن حرية جنوب إفريقيا لن تكون مكتملة من دون حرية الشعب الفلسطيني”.

وفي مذكرة تقع في 84 صفحة، حضّ المحامون القضاة على إصدار أمر لـ “إسرائيل” بـ “تعليق عملياتها العسكرية فوراً” في غزة، مشيرين إلى أنها “انخرطت وتنخرط وتواجه خطر الانخراط أكثر في أعمال إبادة”.

وحسب الحجج المقدمة في الملف، فإن أعمال الإبادة المذكورة تشمل قتل الفلسطينيين، والتسبّب بضرر جسدي ونفسي خطير، وتعمّد خلق ظروف تهدف إلى “تحقيق تدميرهم جسدياً كمجموعة”، كذلك يرد في الملف أن هناك تصريحاتٍ علنية لمسؤولين إسرائيليين تعبّر عن نيّة الإبادة.

وقد وصفت سفيرة فلسطين في جنوب إفريقيا، حنان جرار، جلسة الاستماع الأولى للنظر في قضية رفعتها جنوب إفريقيا تتهم فيها “إسرائيل” بارتكاب جرائم إبادة جماعية بأنها “تاريخية”، مشيرة إلى أنه “عندما تحدّثوا عن النية بالترافع وضعوا أدلة وبراهين وإثباتات أكثر بكثير من المطلوب بحيث لا يستطيع أحد من القضاء أن يرفض أو يدحض ما تم الحديث عنه، مستعينين بخرائط وفيديوهات وتصريحات لقادة الحكومة الإسرائيلية ووزراء وبرلمانيين وصولاً إلى الجنود أنفسهم ومن ثم توجهوا إلى الشكليات”، ومعتبرة أن “طريقة عرض الدعوة والأدلة التي تم وضعها اليوم هي أمر مقنع جداً ولا يستطيع أحد أن يدحضه وخاصة مع استشهادهم بأوامر احترازية صدرت سابقاً لحالات أقل خطورة أو أقل قسوة من الحالة التي يعيشها الشعب الفلسطيني”.

وبعد جلسات استماع ليومين، أعلنت محكمة العدل الدولية أنها ستصدر بعد المداولة قرارها في قضية انتهاك “إسرائيل” اتفاقية منع الإبادة الجماعية في حربها ضد غزة.

وهناك مهمّتان على عاتق محكمة العدل الدولية في هذه القضية، أولهما أن تصدر قراراً أولياً يأمر بإنهاء العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة. وحسب المحكمة، القرار سيصدر في وقت قريب، في حين أن المهمة الثانية المتعلقة بالقرار النهائي بشأن تهمة الإبادة الجماعية، قد يستغرق صدوره سنوات.

وبينما تواصل محكمة العدل الدولية النظر في قضية ارتكاب “إسرائيل” جرائم إبادة جماعية في غزة، يستمرّ الجدل بين الخبراء حول هذه المسألة على أكثر من صعيد، حيث يرى راز سيغال، مدير برنامج دراسات الإبادة الجماعية في جامعة ستوكتون الأمريكية أن ما يجري في غزة “حالة أنموذجية للإبادة الجماعية”، لافتاً إلى أن القوات الإسرائيلية تكمل ثلاثة أعمال إبادة جماعية، بما في ذلك “القتل، والتسبّب في أذى جسدي خطير، والتدابير المصمّمة لتدمير مجموعة بشرية”، مستعيناً في السياق بأدلة متمثلة في مستويات الدمار الشامل والحصار التام للضروريات الأساسية مثل الماء والغذاء والوقود والإمدادات الطبية.

واللافت أن عدداً متزايد من الأكاديميين وعلماء القانون بما في ذلك بعض الشخصيات اليهودية يتهم الحكومة الإسرائيلية بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، حيث إن مجموعة من المقرّرين الخاصين الحاليين للأمم المتحدة المعنيين بحقوق الإنسان كانت قالت في بيان في تشرين الأول الماضي: إنها تدقّ نواقيس الخطر، مؤكدة أن “الشعب الفلسطيني معرّض لخطر الإبادة الجماعية”، و”يتحمّل حلفاء “إسرائيل” المسؤولية وعليهم أن يتحرّكوا الآن لمنع مسار عملها الكارثي”، في حين يقابل المسؤولون الإسرائيليون ومناصرو “إسرائيل” هذه الاتهامات بالإنكار التام، متحججين بأن هجوم 7 تشرين الأول كان يتطلب ردّ فعل بالحجم نفسه، متهمين في الوقت نفسه كل من ينتقد ممارسات الجيش الإسرائيلي العنيفة في غزة بمعاداة السامية.

فالأمر إذن، وعلى الرغم من كونه يمثل مرحلة متطوّرة في عمر القضية الفلسطينية من جانب القانوني الدولي، خاضعٌ لاعتبارات أخرى بعيدة عن القانون تماماً، وهي أن هناك مظلّة غربية واضحة لكل ما تقوم به “إسرائيل” في مواجهة الفلسطينيين بشكل عام، وأهالي غزة خاصة، والغرب عموماً ينظر إلى الأمر على أنه يمثّل إدانة كاملة للاستعمار الغربي الذي أشرف على زرع هذه الغدة السرطانية في المنطقة، وبالتالي فإن أيّ إدانة للكيان الصهيوني هنا، تمثّل إدانة للغرب الجماعي الذي يقف خلفه، وربّما يتعيّن عليه إذا حدث ذلك أن يتقبّل لاحقاً زوال هذا الكيان الذي يعدّ قاعدة متقدّمة له أو حاملة طائرات، كما يحلو لبعض الساسة الأمريكيين تسميته، وهذا الأمر لن يكون مستساغاً بالنسبة له لأنه سيكون آخر مسمار في نعش الغرب الاستعماري.