نظرية الجنون الرئاسي الأمريكية الشائعة
هيفاء علي
هو عنوان مقالة الصحفي الأميركي الشهير سيمون هيرش حول الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي تدفع الرؤساء الأمريكيين إلى شنّ الحروب لانتزاع أصوات الناخبين الأمريكيين. تماماً مثلما يفعل جو بايدن اليوم بدعمه غير المتناهي للكيان الإسرائيلي في عدوانه السافر على غزة، وحربه ضد روسيا في أوكرانيا، وعدوانه مع حليفته بريطانيا على اليمن.
وأضاف هيرش: إن تاريخ الولايات المتحدة الحديث مليء بالرؤساء الذين اتخذوا قراراتٍ كارثية عندما واجهوا ما يعدّونه تحدياتٍ من موسكو، فقد كان الاتحاد السوفييتي أهم حليف لأميركا خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن حتى قبل انتهاء الحرب، دخلت القوى العظمى الناشئة في منافسة جديدة مميتة. وبينما يبدو أن الحرب الباردة قد انتهت قبل ثلاثين عاماً، إلا أن المنافسة اشتعلت من جديد، وعادت روسيا، على الرغم من أنها لم تعُد شيوعية، لتطارد إدارة بايدن.
ثم قدّم هيرش بعض الأمثلة لبعض القرارات السيئة التي اتخذها الرؤساء مدفوعين بانعدام الأمن السياسي لديهم ومستشاريهم المقرّبين مع عدم وجود معلومات استخباراتية موثوقة عن خصومهم، كما هو الحال مع عدوانه على اللجان الشعبية في اليمن. وعاد بالتاريخ إلى عهد الرئيس ترومان، الذي كان في حيرة من أمره عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، وقد تم التلاعب به بسهولة من الصقور في حكومته وفي وزارة الخارجية.
هؤلاء كانوا حريصين على مواجهة السوفييت وأقنعوا ترومان ليس فقط بإظهار قوة القنبلة النووية الأمريكية من خلال تفجيرها في مكان ما في جنوب المحيط الهادئ، كما كان مخططًاً له في الأصل، بل أيضاً بإسقاط قنبلتين على مدينتين يابانيتين لم يكن لهما أي علاقة مع المجهود الحربي هناك، هما هيروشيما وناغازاكي، وقد تم تصوير المدينتين عمداً لوسائل الإعلام على أنهما مراكز لنشاط الدعوة إلى الحرب. وظل ترومان يشعر بالرضا عن النفس تحت الضغوط التي يمارسها الصقور في السنوات الأولى من فترة ما بعد الحرب، عندما شرعت أميركا وحلفاؤها في حملة عالمية لإبقاء الشيوعية تحت السيطرة، وخاصة في أوروبا وجنوب شرق آسيا. ولهذا الغرض تم إنشاء وكالة الاستخبارات المركزية في عام 1947، لتكون وريثة لمكتب الخدمات الاستراتيجية في فترة الحرب.
وفي عهد دوايت أيزنهاور، جنرال الجيش في الحرب العالمية الثانية الذي وصل إلى السلطة في عام 1953 كجمهوري، أعطى الأخوين دالاس، جون فوستر في وزارة الخارجية وألين في وكالة المخابرات المركزية، الإذن بدعم الفرنسيين، بأسلحة وأموال أكثر بكثير من تلك التي كانت في السابق في الحرب ضد الشيوعية. ومع ذلك، في نهاية فترتي ولايته، تمكّن أيزنهاور من دقّ ناقوس الخطر بشأن القوة المتنامية للمجمع الصناعي العسكري، وفي أشهره الأخيرة، وافق أيزنهاور على مؤامرة لوكالة المخابرات المركزية لاغتيال باتريس لومومبا، أول رئيس وزراء مستقل للكونغو، عن طريق التسميم وقد عُرفت تفاصيل تورّطه رسمياً خلال جلسات الاستماع الشهيرة للجنة الكنيسة في عامي 1975 و1976 بشأن العمليات السرية لوكالة المخابرات المركزية.
لقد كانت مشاركة أيزنهاور هي التي دفعت الجمهوريين في اللجنة إلى التهديد بإعلان ما عرفوه عن أنشطة وكالة المخابرات المركزية المماثلة التي أقرّها الرئيس جون كينيدي.
أما جون كينيدي، أول رئيس أمريكي مخصّص للتلفزيون، فقد تولى منصبه في عام 1961 وواصل الحملة ضد الشيوعية في أوروبا وجنوب شرق آسيا وكوبا وأماكن أخرى. سنوات كينيدي لم تجعل العالم مكاناً أكثر أماناً، فبعد ثلاثة أشهر من ولايته، أصيب بالصدمة عندما علم، خلال قمته الأولى مع الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف بعد شهرين في فيينا، أن الروسي يعرف أكثر بكثير منه عن العالم والشيوعية، وقد أخبر لاحقاً جيمس ريستون، كاتب العمود النجمي في صحيفة نيويورك تايمز، أنه سيثبت نفسه في جنوب فيتنام، ولم يكشف ريستون عن هذه المحادثة إلا بعد وقت طويل في مذكراته.
تولّى ليندون جونسون منصبه بعد اغتيال جون كنيدي في عام 1963، مقتنعاً بأن رئاسته سوف تقاس بحجم الحرب التي خاضها جاك في فيتنام الجنوبية، ورفض وقف القصف الأمريكي المكثف والمستمر، سواء في شمال فيتنام أم جنوبها، على أساس أن ذلك سيكون بمنزلة انتقام.
واصل الرئيس ريتشارد نيكسون قصف فيتنام الشمالية وشرع في قصف كمبوديا لسبب آخر: أراد التغطية على قراره بالبدء في سحب الوحدات القتالية الأمريكية من ساحات القتال. بدأ هذا الانسحاب في صيف عام 1970، ولم تؤد التفجيرات إلى تحسين معنويات جيش فيتنام الجنوبية، الذي كان يعلم أنه لا يمكن هزيمة قوات الفيتكونغ والقوات الفيتنامية الشمالية، وخاصة مع انسحاب القوات الأمريكية. لكن نيكسون وهنري كيسنجر يمكن أن يُنسب إليهما الفضل في استخدام القوة وسقوط المئات من الضحايا الفيتناميين لإجلاء القوات الأميركية من الحرب.
وعند الوصول إلى ولاية الرئيس جيمي كارتر، أشار هيرش إلى أنه نجح في إخفاء حقيقة معروفة جيداً لدى أجهزة الاستخبارات الأميركية، مفادها أن “إسرائيل” كانت تختبر برنامجها للأسلحة النووية بمساعدة من جنوب إفريقيا، وكان لديها عميل سري غير عادي في جوهانسبرغ ولكن دون جدوى. ولا تزال ترسانة “إسرائيل” المنتشرة من الأسلحة النووية قضية لن تتم مناقشتها أبداً، حيث يواصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قيادة هياج بلاده ضد الفلسطينيين في غزة ويغض الطرف عن تصعيد العنف المستمر من المستوطنين الإسرائيليين في قطاع غزة والضفة الغربية ضد الفلسطينيين.
أما الرئيس جورج بوش الأب، الذي خلف رونالد ريغان، فقد كان يطارده الدور الرئيسي الذي لعبه في فضيحة إيران كونترا ــ التهريب السري للأسلحة لدعم النشاط المناهض للشيوعية في نيكاراغوا، ودعم بعضاً من أسوأ العناصر في أمريكا الوسطى، مثل مانويل نورييجا في بنما، الذي سُمح له بمواصلة تهريب المخدرات والأسلحة واغتيال خصومه السياسيين، مقابل دعم العمليات الأمريكية المناهضة للشيوعية، حتى رأى بوش أنه من المناسب الإطاحة به في عام 1989.
ولم يكن استعراض القوة في حرب الخليج الثانية لدفع صدام حسين للانسحاب من الكويت كافياً لإنقاذ بوش من الهزيمة على يد بيل كلينتون عام 1992. وقد تميّزت سنوات كلينتون في منصبه بقراره، الذي ألهمه إيّاه ستروب تالبوت، وزير الخارجية والصديق القديم لكسر الوعد الذي قطعته على روسيا وتوسيع حلف شمال الأطلسي إلى الشرق. وأكّد جيمس بيكر، وزير خارجية بوش، لموسكو أن مثل هذه التوسّعات لن تحدث إذا قبل الاتحاد السوفييتي توحيد ألمانيا الشرقية والغربية، وهو ما فعله بالفعل، من خلال السماح لألمانيا الجديدة بالبقاء داخل حلف شمال الأطلسي.
وبالوصول إلى رئاسة أوباما، أوضح هيرش أنه في ولايته الأولى، تصرّف بطريقة آمنة وسمح لهيلاري كلينتون، التي اختارها بشكل مفاجئ وزيرة للخارجية، بإحداث الفوضى في ليبيا من خلال تنظيم ما سمّوه “ثورة” انتهت بالقتل الوحشي لمعمر القذافي، رئيس الدولة الليبية، ومنذ ذلك الحين، استمرّت الفوضى في الانتشار والسيطرة هناك.
ألقى أوباما خطاباً طناناً في القاهرة حول الأزمة في العالم العربي، وأثار الآمال في أن تواجه إدارته التعنّت الإسرائيلي وتدفع “إسرائيل” والفلسطينيين إلى محادثات سلام جادة، ولكن لم يحدث شيء من هذا. فقد فشل أوباما في تنفيذ تعهّد سابق بإغلاق السجن الأميركي المروّع في غوانتانامو، الذي أصبح رمزاً لمعاداة أميركا في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وخيّب آمال الكثيرين بعد إعادة انتخابه في عام 2012، عندما أصبح رئيساً مثل أيّ رئيس آخر، حيث استخدم سلطته لعدم محاولة مكافحة المشكلات في الخارج التي أدّت إلى ظهور الإرهاب، وخاصة القضايا المتعلقة بـ”إسرائيل”، بل لجأ بشكل متزايد إلى العمل العسكري.
ويمكن القول: إن إخفاقات السياسة الخارجية لأوباما وهيلاري كلينتون أثناء وجودهما في المنصب مهّدت الطريق لفوز دونالد ترامب في الانتخابات عام 2016. ولا تزال السنوات التي قضاها ترامب في منصبه حديثة جداً، وليست هناك حاجة للخوض في سياساته ومغامراته وخطاباته التي دفعت الأمريكيين إلى انتخاب جو بايدن في عام 2020. ومع ذلك، في كثير من النواحي، فيما يتعلق بروسيا و”إسرائيل”، واصل ترامب السياسات التي طبقها أسلافه، الديمقراطيون والجمهوريون، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مع إنشاء الكيان الإسرائيلي في عام 1948.
أما جو بايدن فهو يجمع بين أسوأ سمات أسلافه في مرحلة ما بعد الحرب، وبصفته عضواً في مجلس الشيوخ، عدّه بعض أقرانه مغروراً وكسولاً وليس ذكياً تماماً.
بعد التصويت ضد اندلاع حرب الخليج الأولى في عام 1991، كان بايدن، بصفته عضواً في مجلس الشيوخ، يفضّل دائماً سياسة خارجية متشدّدة، ولمفاجأة الجميع، دعم بايدن بقوة “إسرائيل” في عدوانها الحالي على غزة، ولا يظهر أي نية لتعليق شحنات الأسلحة الأمريكية إلى “إسرائيل” أو الانضمام إلى العديد من القادة الدوليين الذين يصرّون علناً على أن توقف “إسرائيل” عدوانها الوحشي على غزة، والعنف المتزايد الذي يمارسه المستوطنون الإسرائيليون، بدعم من جيش الاحتلال الإسرائيلي، ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
ويختم هيرش بالقول: إن دعم بايدن لأوكرانيا و”إسرائيل” في صراعهما وقراره الأخير بمهاجمة اللجان الشعبية في اليمن، أدخله إلى نادي الزعيمين، بيبي نتنياهو وزيلينسكي، الأكثر لعنة في معظم دول العالم. والمفارقة في ولاية بايدن هي أنه، بالإضافة إلى الغرب، يحظى بوتين وشي جين بينغ (الصين) باحترام متزايد.
لقد كان ينظر إلى الرؤساء الأميركيين، بما في ذلك أوباما، بهذه الطريقة من قبل، حتى عندما قادتهم أسوأ غرائزهم التي زرعها مستشاروهم المتعصبون إلى حروب غير ضرورية، لكن بمهاجمة اليمن اليوم، يظهر بايدن علاماتٍ واضحة على الذعر السياسي.