دراساتصحيفة البعث

عجزٌ أطلسي عن إنقاذ كييف..

ليندا تلي

استعراض العضلات الذي طالما تغنّى به الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي يبدو قد ولّى عهده، فكان كالبالون الذي تم نفخه وإتخامه بداء العظمة من سيّده الأمريكي وشركائه الغربيين، فانقلبت الطاولة وباتت قواته بوضع حرج بعد انسحابها من مدينة أفدييفكا وانتقالها إلى حالة الدفاع، وباتت أسوأ ممّا كانت عليه في أرتيوموفسك التي انسحبت منها في أيار عام 2023.

حسم معركة أفدييفكا الاستراتيجية في دونيتسك لمصلحة الجيش الروسي جاء بعد قتال شرس استمرّ أكثر من 4 أشهر مع المتطرّفين الأوكران، بعث رسالة مهمّة قبل أيام من دخول الحرب عامها الثالث وطرح تساؤلاً بشأن قدرة حلفاء كييف على مساعدتها، وفق ما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية.

فالاختباء وراء الأصبع لم يعُد يجدِ نفعاً، حيث أقرّت أوكرانيا بخسارة تلك المعركة باعتراف كبار قادتها العسكريين ابتداءً من رئيس الوزراء دينيس شميغال الذي صرّح علانية بأن الهجوم المضاد للقوات المسلحة الأوكرانية لا يحقق النتائج التي توقّعناها نحن وشركاؤنا، وحتى لو تمكّنا من استعادة معظم الأراضي فلن نتمكّن من الفوز بالمعنى العسكري. هذا الاعتراف الصريح دُعم باعتراف حلف شمال الأطلسي “ناتو” بأن انسحاب الأوكرانيين من أفدييفكا يُظهر مدى تعقيد الوضع في ساحة المعركة.

سيطرة القوات الروسية على مدينة أفدييفكا وتطهيرها من المتطرّفين الأوكرانيين أثار ضغينة جميع أعداء روسيا وفق ما صرّحت به المتحدّثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا.

فالمتطرّفون الأوكران قاموا في 4 حزيران العام المنصرم وبدعم من أصدقائهم على حدّ ظنّهم بهجوم مضاد بهدف اختراق خطوط دفاع القوات الروسية، وقد فشلوا وتكبّدوا خسائر فادحة في العديد والعتاد، وهربوا بشكل فوضوي قبل يوم واحد من قرار القائد العام الأوكراني ألكسندر سيرسكي الانسحاب من المنطقة.

الضربة التي قصمت ظهر البعير هي إقرار الرئيس الأوكراني بأن “الوضع صعب جداً” في مواجهة روسيا، وبأن كييف تمرّ بمرحلة تتميّز بغياب الدعم الأمريكي نتيجة الخلافات السياسية في الكونغرس، وبأن التركيز العالمي بما في ذلك تركيز الدول الداعمة لأوكرانيا منصبّ حالياً على الحرب على غزة، وبأن بلاده تفتقر إلى المدفعية وتحتاج إلى دفاع جوي بقدر ما تحتاج إلى أسلحة بعيدة المدى، معتبراً من جهة ثانية أن الحصار الذي يفرضه على الحدود مع بولندا سائقو الشاحنات والمزارعون البولنديون يظهر “تآكل التضامن” مع بلاده.

الخذلان والخسارة اللتان مُني بهما زيلينسكي وأقرّ بهما قابلتهما نشوة وسخرية  الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الفرار الفوضوي للجيش الأوكراني من مدينة أفدييفكا في شرق أوكرانيا، حيث قال بوتين خلال اجتماع مع وزير الدفاع سيرغي شويغو: إن هذا الفرار الفوضوي حصل حين أصدرت قيادة القوات المسلحة الأوكرانية أمراً بالانسحاب.. كان في الحقيقة هروباً بكل معنى الكلمة وفق ما ذكرت “وكالة الصحافة الفرنسية”، مؤكداً أن القوات الروسية يجب أن تطوّر نجاحها في ساحة المعركة في أوكرانيا بعد سقوط أفدييفكا، بينما أكّد شويغو أن الهجوم الروسي مستمرّ وأن القوات تتحرّك غرباً وفق ما ذكرت “رويترز”.

شبكة “فوكس نيوز” الإخبارية الأميركية وصفت هذا التطوّر، بأنه بمنزلة “نصر كبير” للرئيس الروسي، وبأنه الأكبر منذ سقوط مدينة باخموت في يد القوات الروسية أيار الماضي، التي كانت البوابة الرئيسية لروسيا للتقدم في دونيتسك.

عجوز البيت الأبيض أزاح الحمل عن عاتقه وأرجع ما حدث إلى “تقاعس” المشرّعين الأميركيين، وعدم قدرة الكونغرس على تمرير مزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وجاء تصريح جو بايدن خلال محادثة مع الرئيس الأوكراني بعد لقاء الأخير نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس في مؤتمر ميونيخ للأمن، الذي هيمنت عليه مسألة المساعدات الغربية المقدمة لكييف.

ووفق محللين ومتابعين لسيناريو الخذلان الأمريكي عبر التاريخ للحلفاء والشركاء في سبيل تحقيق الغاية الحقيقية التي تسمو وتفوق أي اعتبار آخر تعدّ الولايات المتحدة أكبر داعم منفرد لأوكرانيا، إلا أن نحو 60 مليار دولار لكييف معطلة بسبب خلافات سياسية بين المشرّعين الأميركيين، إذ إن موافقة جميع دول الاتحاد الأوروبي الـ27 في وقت سابق من هذا الشهر، على حزمة مساعدات مالية بقيمة 50 مليار يورو (54 مليار دولار) لأوكرانيا، جاءت متأخرة لتُمنى كييف بخسارة أخرى ذات مغزى.

صحيفة “فايننشيال تايمز” البريطانية ذكرت أن أوكرانيا حصلت على مساعدات بقيمة عشرات المليارات من الدولارات من واشنطن وحلفائها الغربيين منذ بداية الحرب، إلا أن الرئيس الأوكراني لا يكفّ عن المطالبة بالمزيد.

ويرى محللون أن أوكرانيا ربما تواجه أشهراً صعبة في ظل تقدّم القوات الروسية وشحّ الإمدادات، وخصوصاً مع نقص الذخيرة عالمياً، وتسرّب إحساس لدى حلفاء كييف بأن مطالب زيلينسكي التي لا تنتهي لم تغيّر الوضع على الأرض كثيراً، على الرغم من تفاؤله من قبل بالحصول مثلاً على دبابات “ليوبارد” وتأكيده أنها ستسهم في قلب الموازين خلال ما عُرف بـ”الهجوم المضاد” الذي أجمع كثير من دوائر التحليل السياسي على فشله في تحقيق أهدافه المرجوّة، وفقاً لوكالة الأنباء الألمانية.

وتُختتم جولة اعترافات الشهود بإقرار الخبير العسكري في قوات الاحتياط أوليغ جدانوف بأن الوقت يضيق أمام أوكرانيا، فمشكلة قلة الذخائر قد تستمرّ حتى نهاية الربيع، لأنها تعتمد بنسبة كبيرة على المساعدات الأميركية المتعثرة، وأن أوكرانيا ستواجه بعد خسارة أفدييفكا صعوبة في نقل الإمدادات إلى باقي الجبهات.

ويبدو أن الجميع الآن في أوكرانيا لم يعُد يفكّر فعلياً في مسألة إنجاز أيّ نصر عسكري في الميدان، بل باتوا بما فيهم حلف شمال الأطلسي يخشون أن تتحوّل نشوة الانتصار الروسي في هذا المكان إلى طمع بتوسيع رقعة الأراضي الواقعة تحت السيطرة باتجاه الشمال والغرب خصوصاً، وهذا ما يمكن أن يعدّه الحلف تهديداً وجودياً له.