شعر الزجل.. سهل ممتنع ووثيقة لأحوال النّاس وتطلعاتهم
عبد الكريم العفيدلي
على عكس ما اعتقد صفي الدين الحلي بأن شعر الزجل ولد في المغرب العربي، ثم انتقل إلى العراق، شعر الزجل كحال الشعر النبطي ولد في بلاد الشام، وقد يكون نشأ وترعرع بغير بيئته ثم عاد إليها.
في القرن الثاني عشر الميلادي أطلق الأندلسيون على شعرهم المحكي “الزجل” وتبنى هذا المسمّى ابن قزمان وجماعته، إنما المسمّى لا يثبت ولادة الشعر الزجلي في الأندلس أو المغرب العربي.
يذكر بعض الباحثين من المهتمين بالموروث الشعبي أن شعر الزجل ولد في بلاد الشام وتحديداً في سورية بالقرن الثالث الميلادي، وأرجعه بعضهم إلى القديس “مار أفرام” الذي ينسب له الوزن الأفرامي في الزجل أو ما يسمّى “القرّاداي”، وكان قد ورث عن أستاذه مار يعقوب الوزن اليعقوبي أو ما يُسمّى “المعنّى”.
هذا اللون من الشعر العامي الذي لا يزال منتشراً في سورية ولبنان، لو بحثنا في كنوزه القديمة لوجدنا أنّ هناك كبار المثقفين وفحول الشعر كانوا وراءه مثل ابن نباته وعلاء الدين الدمشقي والصفدي والموصلي وابن العجمي وسليمان الشلوحي صاحب القصيدة المشهورة في فتح طرابلس بعد طرد الفرنجة منها عام 1289م، متفجعاً على مصيرها وما آلت إليه من الخراب ومنها:
ويا حزن قلبي وما يخلي من أحزان
والقلب من الحزن شاعل بنيران
قلت يادار العز ما صابك.. الخ
وتركز في ثلاث مدن هي دمشق وحماة وحلب، وكان في كل مدينة من هذه المدن قيّم للزجل يحتكم إليه الزجالون في معارضاتهم، وهذا القيّم كالنابغة الذبياني قيّم سوق عكاظ الذي كانت تضرب له قبة بالسوق ويحتكم إليه شعراء الجاهلية في أشعارهم.
أما عن أوزان الشعر الزجلي فهي كأوزان الشعر النبطي والفراتي تعود إلى أوزان الخليل الفصيحة، لكنها قد تأخذ مسميات أخرى بـ”اللهجة”، وقد التزام شعراء الشام بخليلية الأوزان الزجلية.
وأنواع شعر الزجل هي كثيرة أهمها: القرّادي وهذا يتفرع إلى طروق عدة “المردود، والمحبوك، والمرصود، والمجزم، وكرج الحجل، والقلاب، والمخمس”.
ومن أنواع شعر الزجل الأخرى: العتابا والميجانا والشروقي والندبة، والحدا، والبغدادي، والدلعونا.
ولو تمعنا في هذه الألوان لوجدنا ذاتها في الشعر الفراتي أو النبطي، مثلاً الشروقي هو ذاته الشعر النبطي ويطلق عليه هذا الاسم في حوران وجبل العرب، أما الحدا فيقابله الهزج في الشعر الفصيح وذاته الحدا في الشعر النبطي فهو من أوزانه.
أما العتابا فهي شعر فراتي يعود بجذوره إلى قبيلة الجبور الزبيدية وفراقيات “افطيم البشر مشهورة” وأخذ عنهم ولاسيما الشيخ الشاعر عبدالله الفاضل الملحم عندما كانت عشيرته الحسنة من عنزة على ضفاف الفرات وينسب إليه كثير من أبيات العتابا التي تبدأ بكلمة “هلي”.
لكن هذه الألوان جميعها لم تختلف بالنظام وطريقة النظم، إنما اختلفت باللفظ واللهجة كحال القصيدة النبطية عند أهل البادية تعرف القصيدة من لهجة شاعرها ومنه لون “العتابا”، مثلاً أي مستمع يستطيع تمييزه من اللهجة ونسبته للبيئة والمنطقة، ومن ذلك أيضاً “الموليا” التي اشتهرت على لسان قبيلة البوشعبان الزبيدية، ولاسيّما العفادلة وأخذ عن لسان شعرائهم كثير من أبيات المولية التي يعود الفضل إليهم بتحويلها من الهجاء إلى الغزل مطلع القرن العشرين، وقد كتب عن هذا كثير من الباحثين.
لايزال شعر الزجل في سورية ولبنان حاضراً بقوة ويغلب عليه المعارضات والهجاء وتقام له منازلات زجلية يستعرض بها شعراء الزجل عضلاتهم، وقد تستمر المنازلة ساعات طويلة، وهذا يقابله في الشعر النبطي فن المحاورة، ومن شعراء الزجل في سورية، اليوم، نذكر شفيق ديب الذي أثبت فحولة شعرية منقطعة النظير في منازلاته مع شعراء سوريين ولبنانيين، ومن نموذج شعره:
مرّت سنة، وْ حلّ الغِياب المخملي
وْمن قبل ما يرتدّ طرْفي للذّهاب
من عمْق تأبين الشّهادة السّاحلي
لاقيت ما في فصل عن فصل الخِطاب
معقول ما إزرع قصيدة مْطوّلة؟
معقول ما أدنو عَلى القوسين… قاب؟
يلّي لزَق حول القصيدة سلسلة
لو كان قاصد يمتحنّي ما أَصاب
هالعمر ساعة رمْل عم تغلي غلي
لكن بميزان الدّعاء المستجاب
في شاعر بْيبحث على ساعة حُلي
وْفي شاعر بْيبحث على يوم الحِساب
وفي لبنان يبرز اسم الشاعر طليع حمدان كأحد أهم شعراء الزجل ومن نموذج شعره:
ولقيت فيكي طير ما بيطير
وحدو مخبّا بريش عاطفتو
وحلِمت فيكي حبوب للتخدير
منهن عَصَرت نبيذ ورشفتو
وحلمت فيكي حوض ورد زغير
شميت عطرو بس ما قطفتو
ومنديل عن تمّك بلا تفكير
زحتو حلتمك طفل كشّفتو
وبكرا إذا يقظه الحلم بيصير
بقلّك لقيتك متل ما حلمتك
وشفت اللي شفتو قبل ما شفتو
وهناك كثير من الأسماء المهمة والبارزة والمخضرمة في شعر الزجل في سورية ولبنان من أمثال: فؤاد حيدر، وأبو علي البلوداني، وفردوس النجار، وسمير هلال، وجريس البستاني، وفي الأردن أيضاً برز العديد من الأسماء أمثال: الدوقراني، وروضة أبو شعر، ونصر عازر، ويعقوب نصر عازار، وغيرهم.
أقيمت نقابات متخصصة لهذا الشعر كـ”جمعية شعراء الزجل” في سورية، و”نقابة شعراء الزجل” في لبنان، واستطاع بأسلوبه السهل الممتنع أن يصل إلى الناس من دون حواجز، فقد حكى أحوالهم وتطلعاتهم وأفراحهم وأحزانهم حتى أصبح وثيقة تعكس واقعهم وهو شعر عربي أصيل لا نستطيع فصله عن أي شعر شعبي استنبط من الفصيح.