الناتو يدقّ طبول الحرب الجوفاء
عناية ناصر
في أعقاب تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن إرسال قوات حلف شمال الأطلسي “ناتو” إلى أوكرانيا لمحاربة روسيا، تلوح في الأفق ظلال صراع أوسع نطاقاً في أوروبا، وفي حال حدوث ذلك فسوف يكون صراعاً يشعل شرارته هوس واشنطن بتوسيع حلف الناتو ليشمل أوكرانيا، وما يترتب على ذلك من عجز قوات حلف الناتو مجتمعة عن هزيمة روسيا أو دفعها إلى المفاوضات، وهو الفشل الذي يعزّز الآن خوف الدول الأوروبية من الهيمنة الروسية، وهي رواية أخرى لواشنطن، في أوروبا، ما يدفعهم إلى التفكير في حرب أوسع نطاقاً كاستراتيجية للبقاء. والغرض من توسيع هذه الحرب هو الغرض ذاته الذي برّر الحرب على روسيا عبر أوكرانيا، أي تدمير الاقتصاد الروسي، وخلق حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي على نطاق واسع، والتسبّب في نهاية المطاف بتغيير نظام الحكم في روسيا. ولذلك، بعد فشل إمداد أوكرانيا بالأسلحة وتدريب قواتها في تحقيق هذا الهدف، يستعدّ حلف الناتو الآن للقيام بذلك بشكل مباشر.
فعلى سبيل المثال، عارضت العديد من دول الناتو، مثل ألمانيا وبولندا والسويد، إرسال قوات إلى أوكرانيا. وقد قال المستشار الألماني أولاف شولتس، وهو ما يتناقض مع ماكرون في الأساس: إن هناك اتفاقاً على عدم إرسال قوات حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا. وقد تكرّر هذا في أعقاب تحذير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أنه إذا تعرّضت الدولة الروسية للتهديد، فإن روسيا ستكون على استعداد لاستخدام الخيار النووي. ولم يتم التعبير عن هذا التحذير في ردّ على سؤال صحفي، بل في خطاب ألقاه بوتين أمام الجمعية الفيدرالية الروسية، وهو ما يدل على جديته ومساعي بوتين لكسب ثقة النخبة السياسية الروسية بشأنه. وكان لهذه الجدية تأثير في اختراق طبول الحرب في حلف شمال الأطلسي، ما أجبر العديد من دول الناتو على التراجع على الفور وإعادة التفكير.
من المؤكد أن العديد من دول الناتو تمتلك القدرة النووية، لكن حتى شبح حرب (نووية) أوسع نطاقاً في المنطقة يعني أيضاً أن العديد من هذه البلدان سوف يضطر إلى زيادة إنفاقه الدفاعي. وفي هذا السياق قال دونالد ترامب مؤخراً إنه إذا أصبح رئيساً للولايات المتحدة وإذا لم ينفق أعضاء الناتو نصيبهم المستحق، فمن المحتمل ألا تلتزم الولايات المتحدة بميثاق الناتو، الذي تنص المادة الخامسة منه على أن جميع دول الناتو ستساهم في حال تعرّضت دولة عضو للهجوم.
الآن، إذا دعمت دول الناتو إرسال قوات إلى أوكرانيا، فسيؤدّي ذلك حتماً إلى رفع تكلفة الحرب، ما يعني أن هذه الدول ستضطرّ إما إلى إنفاق 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع أو رؤية التحالف ينهار، وبالتالي فإن معارضة إرسال قوات إلى الناتو أمر منطقي أيضاً بسبب العودة المتوقعة لترامب إلى البيت الأبيض. لا ترغب دول الناتو في الانغماس في أزمة ربما لا تتمكن من تمويلها، بسبب أزمة تكلفة المعيشة الاقتصادية المستمرة في القارة الأوروبية بأكملها، وهذا قد يدفع الولايات المتحدة بقيادة ترامب بعيداً عن التحالف، ما يزيد من إضعافه أمام روسيا.
وكما تظهر البيانات، فإن 11 دولة فقط من دول الناتو تنفق 2% أو أكثر من 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، في حين أن أغلبية هذه الدول، بما في ذلك فرنسا، لا تفعل ذلك. هذا التقسيم ليس من قبيل المصادفة، بل شكّلته الاعتبارات الجيوسياسية.
ورغم أن الولايات المتحدة تنفق مبالغ ضخمة على الدفاع، فإن هذا يرجع في الأساس إلى حقيقة مفادها أنها ترى نفسها قوة عالمية قادرة على نشر القوة العسكرية الصارمة في مختلف أنحاء العالم. ولكن ليس كل دولة من دول الناتو لديه هذه الرؤية، فعلى سبيل المثال، تنفق دول الناتو التي تقع جغرافياً بالقرب من روسيا، مثل بولندا، المزيد على الدفاع بسبب تصوّراتها الخاصة بالتهديد. ولكن دول الناتو الأخرى، مثل فرنسا وأسبانيا وكندا وغيرها، تنفق أقل من 2% بسبب المسافة الجغرافية بينها وبين روسيا، الأمر الذي ينتج نوعاً مختلفاً من تصوّر التهديد تجاه روسيا.
بين عامي 2014 و2023، لم تقم العديد من دول الناتو، مثل فرنسا والنرويج والدنمارك وألمانيا وإيطاليا وغيرها، بزيادة إنفاقها الدفاعي. فمع عدم إنفاق أغلبية دول حلف الناتو بالقدر الكافي على الحلف، فإن هذا يعني أن الحلف غير قادر على خوض حرب طويلة. حتى الآن، لم يخُض حلف شمال الأطلسي سوى حروب قصيرة، مثل تلك التي اندلعت في ليبيا. وفي أفغانستان، حيث خاضت حرباً طويلة، وكانت الولايات المتحدة هي التي خاضتها في المقام الأول، وفشلت في تحقيق أهدافها، والبعض في التحالف يدركون ذلك.
على سبيل المثال، قال الأدميرال روب باور من البحرية الملكية الهولندية، وهو أعلى قائد عسكري في حلف الناتو والمستشار العسكري لمجلس شمال الأطلسي، في تشرين الأول من العام الماضي: “نحن بحاجة إلى كميات كبيرة. إن الاقتصاد المناسب في الوقت المناسب والذي بنيناه معاً خلال 30 عاماً في اقتصاداتنا الليبرالية أمر جيد لكثير من الأشياء، ولكن ليس للقوات العسكرية عندما تكون هناك حرب مستمرة. والسبب في ذلك هو أن استراتيجية الناتو تُعرف بحرب “تعال كما أنت”، ما يعني أنه لا يمكنه القتال إلا بقدر استمرار تدفق الإمدادات، وهو ما يعتمد على ميزانيات الدول الأعضاء، التي لا يرغب الكثير منها في زيادتها، أو لا تستطيع زيادتها، ولهذا السبب يفضّل حلف شمال الأطلسي استراتيجية يمكنها إنهاء أي حرب بسرعة.
ولكن عندما يتعلق الأمر بمحاربة قوة عسكرية عظمى مثل روسيا التي تمتلك القدرة النووية ، فإن التوصّل إلى استنتاجات سريعة لا يمكن تصوّره من الناحية الواقعية. وتدرك أغلب دول حلف الناتو هذه الحقيقة استناداً إلى تجربتها في الكيفية التي فشل بها دعمها المستمر لأوكرانيا في تحقيق ولو مظهر من مظاهر أي تغيير ملموس نحو تغيير النظام في روسيا، ناهيك عن هزيمة روسيا عسكرياً.