صورة “البعثي” في مرآة ذاته
بسام هاشم
بوسعنا أن نؤكد أن الانتخابات الحزبية الحالية ستدشن الحل لمشكلة مزمنة، هي مشكلة الديموقراطية داخل الحزب، ولكننا لا نستطيع أن نقصي احتمال أن هذه الانتخابات قد تطلق، بالمقابل، نوعاً من أزمة هوية؟ بمعنى أن علينا أن نتوقع نتائج قد لا تروق لبعض الرفاق مهما كان تقبلهم لقواعد اللعبة، وأن هناك من سيحاجج بأن بعض الناجحين قد لا يمتلكون الحيثية المطلوبة – وقد يحدث ذلك للأسف – وأن محاججة كهذه قد تتخذ، في أحيان كثيرة، شكل تذمر ضمني يبقى مفهوماً، على كل حال، وسط حالة الاستقطاب التي فاقمتها الحرب، وتحت ضغط الانتماءات الضيقة، والتحديات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة التي يمر بها “حزبيون” غير قليلين، بل وشرائح واسعة من مجتمعنا.
وإذ يتعين علينا أن نضع نصب أعيننا أن البعث حالة وطنية شاملة، وعابرة للأجيال والمكونات والأطياف والانتماءات والشرائح المختلفة، وليس حكراً لفئة أو طبقة أو نخبة، وأن له سلسلة أدوار متراكبة أدّاها، ويؤدّيها، في الحياة الوطنية، والقومية، فإن علينا أن نعترف، بالمقابل، أن البعثيين قد لا يسيرون على موجة واحدة، وأن آراءهم قد لا تتطابق، في لحظة ما، وأن الحزب لربما يجد نفسه، في لحظة أخرى، في معمعة سباقات أو صراعات أو تباينات حول ترتيب الأولويات لا يستهان بجديتها وخطورتها؛ خاصة مع تطورات ما بعد الحرب التي خلفت رؤى متضاربة، بل ومتصادمة، بين من يعتقد، مثلاً، بضرورة “تعميم” تكلفة الحرب والحصار، أي السير بـ “عدالة الفقر”، وبين من يرى ضرورة الانقلاب على تداعيات الحرب ذاتها، من خلال اعتماد أنموذج تنموي قادر على مواجهة الحصار والعقوبات من خلال دعم رأسمالية وطنية صلبة، كما هو الحال في كل الاقتصادات الصاعدة، ومنها تركيا وإيران والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا.
ولكن بعثاً ينزل الى أرض الواقع، ويقرّ بالحقائق العملية، ويعترف بأهمية المشاركة، كمقدمة لإعادة بناء علاقاته التنظيمية، ومن ثم التأسيس لحياة سياسية وطنية في أفقها الأوسع، وصولاً إلى مجتمع يمتلك المناعة الذاتية التي تؤهلة للدفاع عن مكتسباته ومصالحه وإنجازاته.. مثل هذا البعث لابد أن يجد نفسه ملزماً بالتخلي عن النزعة الإطلاقية، وعن اليقينيات الجامدة، وعن الرومانسيات الرعوية، بحيث يمتلك قابلية المواءمة بين مصالح متضاربة ومتعاكسة، شخصية ومجتمعية.. بعث يعرف كيف يكون حزباً “حاكما” بأن يلتزم حدود اللعبة التمثيلية، ويجيد توظيفها واستخدامها، ويمد خيمته لتشمل كل الوطنيين على اختلاف توضعاتهم.
فمن قال، مثلاً، إن عضوية البعث، أو أي حزب، يحب أن تكون منزهة عن المطامح والتطلعات، وحتى عن المصالح الشخصية؟ إن تقييد صورة “البعثي”، في مرآة ذاته، كراهب أو قديس، أو متعبد في محراب التزهد، لطالما داعبت أحلامنا وشكلت رومانسيتنا، الشخصية والجماعية، بمفهومها الفضفاض، والغامض، والمفعم بالايحاء، والمستبد، ولكنها كثيراً ما اصطدمت بحقائق الواقع، وعلى فترات تاريخية متباعدة، وفي تاريخ البعث نفسه.. لقد نشأ البعث كنوع من نكران الذات والتضحية بها، ولكن هذه الصورة لم تكن لتوجد، أو لتصمد عملياً، على أرض الواقع؛ ولربما كانت السبب التي جعل البعيثين يتمزقون دائماً بين مثل أعلى مغال في ترفعة ومثاليته، وبين صورة مغايرة لـ “آخر” طارئ وعابر يشكو منه البعثيون قبل غيرهم.
غير أن الاستفاقة من رومانسية، كهذه، هو ما سينقل الحزب من الشعاراتية إلى الخطة وجدول الأعمال والبرنامج، وهو الذي سيحرر الحزب، والقواعد الحزبية، في المقدمة، من تهمة التفرد والاستئثار بالقرار والوصاية التي لاحقته لفترات طويلة، والتي لا يمكن أن تمارسها، عادة، سوى قيادات غير مؤهلة وغير مسؤولة؛ فنحن، حينئذ، سنتحدث لغة واضحة لا يشوبها الغموض ولا التوريات، ولن تترك لأي كان إمكانية إخفاء انتهازيته وحساباته الضيقة وأنانيته، ولربما سيكون الحزب عنذئذ أقرب إلى الأجيال الجديدة، الواقعية في سلوكها، والبراغماتية في ذهنيتها وتجربتها في العيش.
إننا – وكما حدد الرفيق الأمين العام للحزب، السيد الرئيس بشار الأسد، ندخل مرحلة تغيير المنظومة، وهي الصيغة التي تعني أن المطلوب هو تغيير عميق على مستوى العلاقات والممارسة والسلوكية الحزبية والمؤسساتية والمجتمعية، وتغيير بروتوكولات التعاطي والتخاطب والعمل المشترك؛ بمعنى أن الدولة السورية التي أثبتت، بمؤسساتها التنفيذية والتشريعية، قدرة هائلة على الصمود والعمل في أصعب الظروف قادرة اليوم، بإمكانات ذاتية، على اجتراح الحلول باستقلالية تامة، مع التذكير دائماً بأن ما استهدفته الحرب قبل كل شي إنما كان بنية وهيكلية الدولة السورية، وبأن التغيير المقصود لن يكون ثورة عنيفة، ولن يكون انقلاباً صاخباً، بل تحولاً هادئاً ومنتظماً ومدروساً في كل محطة من محطاته، وهو لذلك سيكون ثابتاً راسخاً ومطمئناً يترجم طموح شعبنا وحرصه على دوره الحضاري ومكانته العالمية وتمسكه بمؤسساته وتقاليده.
إن البعث، في المحصلة النهائية، ضرورة لسورية كقوة سياسية وجماهيرية، وهو سيبقى فكرة ملهمة عبر الأجيال والأديان والطوائف والمراحل المتعاقبة.. وما هو مطلوب من البعث حالياً يتعدى إثبات جدارته أمام نفسه، وأمام قواعده، وأمام جماهيره، بل والتأسيس لحالة حزبية وطنية سليمة، هي من مهام البعث.. البعث وحده، وليس الرعاع، وليس الخارجين عن القانون، وليس العملاء والخونة.