دراساتصحيفة البعث

انسداد في البحر الأحمر وتوتر في سائر الجبهات.. إلى أين؟

طلال ياسر الزعبي 

من الواضح طبعاً أن كل ما استطاع الكيان الصهيوني فعله بعد نحو مئة وثمانين يوماً من حرب الإبادة التي يشنهّا على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، هو قتل كل من وصلت إليه آلة قتله وتدمير المنازل والبنى التحتية والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، ولكنه لم يستطع تدمير إرادة الصمود لدى الشعب الذي لا يزال يمارس بحقه أبشع أساليب التعذيب والتجويع التي عرفتها البشرية، وذلك بإقرار تام من جميع المنظمات الإنسانية الدولية، بما فيها الأمم المتحدة التي وقفت عاجزة عن إغاثة الشعب الفلسطيني.

والحال هكذا، تستمرّ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في ممارسة جميع أساليب النفاق للادّعاء أنهما يحاولان بالفعل الوصول إلى حل ينقذ الشعب الفلسطيني، ولكنهما في حقيقة الأمر يساعدان الاحتلال بشكل ممنهج على تنفيذ أكبر عملية تهجير قسري “ترانسفير” عرفها تاريخ البشرية، إمعاناً في تنفيذ المشروع الصهيوني الذي وُلد أصلاً بموافقة غربية، بل باحتضان غربي، وكل ما يقومان به على الأرض هو محاولة تضليل الرأي العام الذي بدأ ينقلب عليهما، حيث تبيّن لشعوب العالم وليس فقط للشعوب الغربية، أن الغرب بمجمله يساهم مباشرة في حرب الإبادة التي تُشنّ على الشعب الفلسطيني، وأن جميع ما يتشدّق به الساسة الغربيون من نظريات الديمقراطية وحقوق الإنسان إنما هو نفاق وذرٌّ للرماد في العيون، فلا أحد منهم يؤمن بهذه القيم إلا بالقدر الذي يستطيع من خلاله استخدامها أداة في الحرب على الدول والشعوب التي لا تخضع للهيمنة الغربية، وتحاول الحفاظ على سيادتها واستقلال قرارها الوطني.

على أي حال، ربما تكون الرياح قد جرت فعلاً بما لا تشتهيه السفن الغربية، مجازاً أو حقيقة، فواقع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بعد نحو ثلاث سنوات من حرب الاستنزاف التي خاضاها على روسيا، ينبئ بأن الوضع الداخلي فيهما بات سيّئاً نتيجة تداعيات الهزيمة المدوية التي مُنيا بها، رغم الاستفادة الكبرى لشركات السلاح الأمريكية التي جاءت طبعاً على حساب الاقتصاد العام للبلاد، ومصداق ذلك طبعاً حجم الدين العام، فضلاً عن العجز المحقق في القدرة على توريد السلاح للجبهتين في أوكرانيا وغزة، والجبهة اللبنانية، وكذلك الجبهة اليمنية التي لم تكن ضمن الحسابات الغربية، حيث أصبحت الآن حديث الغرب بالكامل بعد أن أغلق اليمن في وجه الغرب أهم ممر تجاري دولي، وليس ذلك فحسب، بل بات يهدّد حتى بإغلاق الممر الملاحي إلى رأس الرجاء الصالح.

في ظل هذا الواقع الجديد، ربما أدرك الغرب جيداً استحالة الاستمرار في دعم هذه الحرب إلى ما لا نهاية مع العجز الصهيوني الواضح عن حسم المعركة على الأرض، فضلاً عن التداعيات الخطيرة على الحالة العامة في الكيان، بعد الخسائر الاقتصادية غير المسبوقة وتوقّف التجارة في أهم موانئ البحرين المتوسط والأحمر،  في فلسطين المحتلة، والأهم توقف جميع المشاريع الاقتصادية التي كان يعوّل عليها الكيان أداةً للتطبيع مع دول المنطقة، فضلاً عن الخسائر على مستوى السياحة والتجارة والصناعة وهروب رؤوس الأموال، والهجرة العكسية.

ضمن هذا الوضع الناشئ على مستوى العالم، واضح أن المعركة الآن بدأت تأخذ منحى عالمياً، حيث دخلت روسيا والصين وإيران بشكل غير مباشر إلى الساحة، مستغلة التورّط الأمريكي الغربي في الحرب، حيث لا يمكن فصل التطوّرات في جبهة اليمن مثلاً عن مصالح هذه الدول،  كما أن السلاح الاستراتيجي الذي بدأ يظهر في المنطقة، بات ينذر بنشوب صراع أكبر لا يستطيع الغرب تحمّل تبعاته لما يمكن أن يؤدّي إليه من زلزال كبير في المنطقة والعالم على طريقة أحجار الدومينو، وذلك أن الكيان الصهيوني ذاته بدأ يسعى بشكل ظاهر إلى توسيع رقعة الصراع لإجبار الغرب الجماعي على الدخول في معركة غير محسوبة النتائج، من خلال الاستهداف المتكرّر لكل من سورية والعراق، والضغط الشعبي المتزايد في كل من مصر والأردن لإلغاء اتفاقيّتي السلام، وكل ذلك له حساباته الخاصة في واشنطن والعواصم الغربية.

المعركة حتى الآن معركة عضّ أصابع، ولم تبلغ بعدُ مرحلة كسر العظم، ولكن إذا قُدّر لها أن تبلغ هذه المرحلة، فإن إمكانات محور عالمي كامل ستكون حاضرة فيها بمواجهة المحور الصهيوني، وعندها سيكون الوضع مهيّأ للحسم في مسألة ولادة نظام عالمي متعدّد الأقطاب، لأنه باختصار قد بلغ ذروة الصراع ولا مجال مطلقاً للعودة إلى الوراء، وما يؤخّره فقط هو حسابات حجم الخسائر، وليس النتيجة لأنها باتت محسومةُ.