دراساتصحيفة البعث

العدوان على غزة.. رهان نتنياهو الخاسر

هيفاء علي

ساهم العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة في تسريع تحوّل اليسار الأميركي، حيث أصبح التضامن مع الفلسطينيين عنصراً أساسياً في سياسة اليسار، تماماً مثل معارضة الوقود الأحفوري.

وكما حدث خلال حرب فيتنام والنضال ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فإن الحماسة اليسارية تعمل على إعادة تشكيل التيار الليبرالي السائد، ومن الواضح أنه إلى جانب تطوّر “إسرائيل” نحو اليمين المتطرّف، ازداد الدعم المؤيد للفلسطينيين في الولايات المتحدة، بدليل أنه في تشرين الثاني 2023، عارض 49% من الناخبين اليهود الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً طلب بايدن تقديم مساعدات عسكرية إضافية لـ”إسرائيل”، وهذا هو الاتجاه، واتجاه التحوّل داخل السياسة الأمريكية.

كذلك بلغ عدد “المتغيّرين” الشباب أكثر مما يدركه الكثيرون، وخاصة بين جيل الألفية الذين ينضمّون إلى حركة التضامن مع فلسطين التي تنمو؛ إنها حركة ترحّب بالمزيد من اليهود الأمريكيين، ولكنها، في المقابل، تجد صعوبة أكبر في تفسير أين يتناسب اليهود الإسرائيليون مع رؤيتها لتحرير فلسطين.

ومن أجل سدّ هذه الفجوة، اتخذت إدارة بايدن موقفاً محرجاً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هذا الأسبوع، عندما امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت على “قرار يتعلق بوقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن. كان البيت الأبيض يعتزم “الوقوف معاً”، مناشداً اليهود الأمريكيين (كبار السن) الذين ما زالوا يعدّون تقدّميين وصهاينة، والوقوف وجذب أولئك الذين ينظرون إلى التحالف المتنامي بين المؤسسات الصهيونية الكبرى والحزب الجمهوري على أنه غير مريح، حتى لا يغتفر، ومن يريد أن تتوقف المجازر في غزة الآن.

إن القرار الذي امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت عليه “لا يدعو إسرائيل أو حركة المقاومة حماس إلى القيام بهذا أو ذاك، بل يطالبهما بالقيام بشيء ما. وكما كان متوقعاً، كانت استراتيجية إدارة بايدن ذات الوجهين تقع بين موقفين”، ذلك أن الحل المؤقت لن يحل التغيير الهيكلي الذي يحدث، فغزة هي التي تفرض الأمور، ويجب على اليهود الأميركيين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم التقدميين والصهيونيين أن يختاروا، وسوف يخلّف اختيارهم عواقب انتخابية هائلة في الولايات المتأرجحة، مثل ميشيغان، حيث من المحتمل أن يحدّد نشاط اليسار الأميركي نتيجة الانتخابات الرئاسية.

والأهم من ذلك أن هذه الحيلة أظهرت لنتنياهو أن بايدن ضعيف، ذلك أن الانقسام الذي بدأ داخل حزبه يؤدّي إلى نوع من عدم الاستقرار، حيث يمكن لمركز ثقله السياسي أن يتحرّك داخل الحزب، أو حتى يعمل على تعزيز موقف الجمهوريين الذين يعدّون هذه الحقيقة استرضاء للفلسطينيين من خلال “العروض الأمريكية”.

كذلك تسبّبت حيلة الأمم المتحدة في إثارة عاصفة نارية في “إسرائيل”، حيث ردّ نتنياهو بإلغاء زيارة وفد رفيع المستوى إلى واشنطن لمناقشة الخطط الإسرائيلية بشأن رفح، ثم استدعت “إسرائيل” فريق التفاوض بشأن الأسرى من قطر بعد أن وصلت المحادثات التي استمرّت عشرة أيام إلى طريق مسدود، ما أثار لعبة تبادل اللوم بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”، والرسالة هي نفسها دائماً: “فشلت المفاوضات بشأن الأسرى، إنه خطأ بايدن”. وبالتالي، من الواضح أن العلاقات تتدهور: إدارة بايدن تسعى جاهدة لتأمين إطلاق سراح الأسرى ووقف إطلاق النار، استراتيجيته بأكملها تعتمد على ذلك، وتعتمد آفاق إعادة انتخاب بايدن على ذلك، وهو يعلم أن عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة يواجهون خطر الموت جوعاً في أقصر وقت ممكن.

أما على المستوى الانتخابي، فالأمور لا تسير على ما يرام بالنسبة له، وهو يعرف ذلك ويشك في أن نتنياهو يحاول عمداً القتال ضده، لهذا السبب ربما يريد بايدن عزل نتنياهو، ولكن لأي غرض؟

حقيقة، يبدو أن البيت الأبيض يواجه صعوبة في استيعاب الواقع، فإذا غادر نتنياهو، فإن السياسة الإسرائيلية سوف تظل دون تغيير إلى حد كبير، واستطلاعات الرأي لا لبس فيها بشأن هذه النقطة. وقد يجد رئيس البيت الأبيض السريع الغضب والمحبط في “غانتس” محاوراً أكثر لطفاً وأكثر ودية، إن مسار “إسرائيل” يتحدّد من خلال تحول هائل في الرأي العام الإسرائيلي، ولا يوجد “حل” عملي واضح لغزة، وربما يكون بايدن على حق في أن الخلاف بين نتنياهو وبايدن مصطنع.

بالنسبة لنتنياهو، الطريق للخروج من هذه المفارقة هو “إلقاء اللوم على بايدن” وربما يعلم نتنياهو أن قطاع غزة سوف يصبح أرضاً لا هوادة فيها للتمرّد، وسوف يلقي اللوم على بايدن، الذي يعدّ بالفعل “كيس اللكم” لمحاولته فرض دولة فلسطينية على “إسرائيل” المتردّدة. وعلى نحو مماثل، يبدو أن البيت الأبيض أخطأ في قراءة “الأساس” فيما يتعلق بصفقة الأسرى، متصوّراً أن حركة المقاومة حماس لم تكن جادة في مطالبها، لذلك لم تكن هناك مفاوضات جادة. وبدلاً من ذلك، اعتمدت الولايات المتحدة على الضغط باستخدام الحلفاء للضغط على المقاومة الفلسطينية والتهديد بالتسوية عبر قطر ومصر ودول عربية أخرى بدلاً من تلبية مطالبها. ولكن، كما كان متوقعاً، لم تكن الضغوط الدبلوماسية كافية، ولم يغيّروا مواقف المقاومة الأساسية.

ونظراً لوجود بعض الخبرة المباشرة في هذا النوع من المفاوضات، فإن نتنياهو يعلم أنه لن ينجو سياسياً من الثمن الحقيقي الذي سيتعيّن عليه دفعه، فيما يتعلق بالإفراج عن الأسرى لتأمين التوصل إلى اتفاق.