“إسرائيل” والشرعية الدولية وموازينها؟
في قراءة وتتبّع تاريخي لنشوء الكيان الصهيوني فكرة واحتضاناً ورعاية، نرى أنه ولد وقام واستمرّ في ظل موازين قوى كانت في مصلحته، فقيام دولة يهودية وإن كان أحد مخرجات مؤتمر بال في سويسرا عام 1897، إلا أن رعاية بريطانيا وفرنسا للفكرة هي التي مهّدت الطريق لها لتصبح واقعاً قائماً، فبُعيد انتصار بريطانيا وفرنسا وهزيمة تركيا (الدولة العثمانية) وحلفائها في المحور، صدر قرار وعد بلفور 1917 الذي أقرّت فيه بريطانيا حق اليهود بإقامة دولة لهم في فلسطين، وبحكم احتلالها فلسطين وفّرت كل أسباب ذلك، ولكي تشرعن ذلك الوجود جاءت هي وفرنسا المنتصرتان في الحرب بنظام عصبة الأمم ليكون النظام الدولي الذي أعقب اتفاقية وتسفاليا 1648، وتقرّ العصبة نظام الانتداب والوصاية، وهو التسمية الملطفة للاستعمار الذي وُضعت فلسطين من خلاله تحت الانتداب البريطاني الذي كان الحاضنة للجنين الذي كان فكرة في مؤتمر بال ووفّرت له كل أسباب الحياة، حيث تضمّن صك الانتداب تنفيذ وعد بلفور في مخالفة صريحة لنظام الانتداب الذي كان من الدرجة الثالثة، ففتحت بريطانيا أبواب الهجرة لليهود، وتم إنشاء ميليشيات عسكرية وبناء مدارس وجامعات ومعاهد دراسات وأبحاث ومؤسسات “دولة قيد الإعلان”، فكانت بريطانيا الحاضنة والراعية لتكون ولادة الكيان تحصيل حاصل.
وهذا ما حدث بالفعل، فمع قيام الحرب العالمية الثانية وانتهائها بانتصار كل من بريطانيا وفرنسا وأميركا وحلفائها، وفي ظل موازين قوى دولية جديدة لمصلحة المنتصرين عبّر عنها بإقامة وولادة منظمة الأمم المتحدة بديلاً عن العصبة، وتشكّل نظام دولي جديد، حيث نضجت ظروف قيام الدولة اليهودية صدر القرار رقم 181 لعام 1947 القاضي بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب لتكون الولادة برعاية أميركية، في 15 أيار عام 1948، ويعلن بن غوريون قيام ما تسمّى دولة إسرائيل، ولكي تُكسب أميركا وحلفاؤها ذلك الكيان اللقيط شرعية دولية صدر القرار المذكور بعد ضغوط هائلة على الدول الأعضاء في المنظمة التي لم تكن تتجاوز 57 دولة وبفارق صوتين فقط، حيث صوّت لمصلحته 33 دولة فقط، أي ثلثا الدول الأعضاء، وفي ظل هيمنة غربية على المنظمة الوليدة وموازين قوى لمصلحة الغرب وحالة ضعف عند العرب، حيث كان أغلب الدول العربية تحت الاستعمار بأشكاله المختلفة، ولجهة إدماج هذا الكيان في المجتمع الدولي المعبّر عنه في هيئة الأمم، تم قبول عضويته عام 1949، بعد أن رفض طلب العضوية مرّتين، ولكنه قبول مشروط بتنفيذ إسرائيل للقرارين 181 لعام 1947، وهو قرار التقسيم والقرار 194 لعام 1949 القاضي بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم وأراضيهم أو قبولهم التعويض، وقد وافقت ووقّعت الحكومة الإسرائيلية، آنذاك، والتي كان يرأسها الإرهابي ديفيد بن غوريون، على ذلك التعهّد. ومع مرور 75 عاماً على ذلك التعهّد والقبول المشروط للكيان في هيئة الأمم، إلا أنه لم يقم بتنفيذ مضامينه وهو قيام دولة فلسطينية، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، ما يطرح إمكانية إثارة قضية طرد هذا الكيان من عضويته في الأمم المتحدة لعدم تنفيذه للقرارين المذكورين وقبوله المشروط بتنفيذهما كما أشرنا سابقاً، ولعل مسؤولية طرح ذلك تقع على عاتق الدول العربية أو أية دولة عضو في الجمعية العامة أو مجلس الأمن الدولي.
ولم يقف ذلك الكيان عند حدود عدم تنفيذ مضمون القرارين المشار إليهما، وإنما رفض كل القرارات والتوصيات الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني، ومنها القراران 242 لعام 1967 والقرار 338 لعام 1974 الصادرين عن مجلس الأمن الدولي بخصوص الانسحاب من الأراضي العربية التي احتُلت في عدوان الخامس من حزيران عام 1967، يُضاف إلى ذلك عشرات القرارات والتوصيات الصادرة عن الهيئة الأممية، ولعل أقربها القراران الصادران عن الجمعية العامة بأغلبية 157 صوتاً وعن مجلس الأمن بكامل أعضائه الـ 15، عدا أمريكا الممتنعة عن التصويت بخصوص وقف إطلاق النار في غزة التي تتعرّض لحرب إبادة وفق توصيف محكمة العدل الدولية في لاهاي، ما يعني أننا أمام كيان لا يرفض فقط تنفيذ قرارات الأمم المتحدة المعبّرة عن رأي عام عالمي وشرعية دولية، وإنما ينتهك القانون الدولي والشرعية الدولية ويمارس كل أنواع العدوان على دول ذات سيادة، وآخرها عدوانه المركّب على السيادة السورية وعلى السفارة الإيرانية في دمشق في سابقة لا مثيل لها، ومع ذلك لا نجد أي تصرّف من المجتمع الدولي أو مؤسساته المختلفة لمواجهته وردعه أو معاقبته، في حين تتفعّل كل مواد الميثاق عندما يكون الطرف المستهدف عربياً، بما في ذلك البند السابع القاضي باستخدام القوة لتنفيذ قرارات مجلس الأمن.
إن هذا “الدلال السياسي” يجب أن يتوقّف وتُوضع له حدود احتراماً لميثاق الأمم المتحدة الذي أصبح، ومع الأسف، في الحضيض، ما يطرح السؤال حول جدوى بقاء واستمرار هذه الهيئة الدولية التي لا تستطيع ردع أو وقف تجاوز ميثاقها من أحد أعضائها الذي يُفترض فيه وفق ميثاقها تنفيذ واحترام قراراتها وتوصياتها لا تحدّيها وتسفيهها، وهنا تجدر الإشارة إلى ما جاء على لسان مندوب “إسرائيل” في الأمم المتحدة قبل ثلاث سنوات، عند الحديث عن ضرورة قيام دولة فلسطينية، والتزام “إسرائيل” بقرارات الأمم المتحدة، حيث اعتلى منبر الجمعية العامة في اجتماعها السنوي قائلاً، بعد أن وضع الكابي اليهودي على رأسه، وأمسك التوراة بيمينه، في تحدّ واضح للجميع: إننا نستمدّ شرعيتنا كدولة من هذا الكتاب، وليس من قرارات الأمم المتحدة، فأرضُ “إسرائيل” منحنا إياها الرب يهوه وليس غيره!!
د. خلف المفتاح