أحوال..
عبد الكريم النّاعم
ذهب لتهنئة صديق له بنجاحه مرّة أخرى لرئاسة جمعيّة تُعنى بالشأن العام، استقبله ببشاشة، فسأله: “كيف كانت الانتخابات؟”
فأجابه وهو يلوح برأسه يمنة ويسرة، وقال: “تصوّر يا رجل أنّنا خرجنا من هذه الانتخابات مشرزَمين، الصديق لم يعد يثق بصديقه، لقد تفتّتنا بطريقة مُقلِقة، فنحن أصدقاء منذ أزمنة، بيد أنّ نجاح البعض ورسوب آخرين، وتلك طبيعة الانتخابات، لا بدّ من ناجح، ولا بدّ ممّن لم يحالفه الحظّ، وهذا دليل على جهل معنى الممارسة الديمقراطيّة.. على أيّ حال، اليوم سيكون لدينا احتفال، وأرجو أن تكون حاضراً”..
ذهب تلبية لرغبة صديقه، وقف صديقه رئيس الجمعيّة بكامل أبّهته وأناقته، وأشاد بالروح الديموقراطيّة، والجماعيّة التي شملتْ الكلّ، وذلك دلالة على رقيّ في فهم الممارسة الديموقراطيّة”..
حين سمع شيئاً لم يسمعه في الصباح من ذات المتكلّم قفزت إلى ذهنه حكاية الشجرة التي صمدت طويلاً في وجه الأعاصير، حتى هاجمها حشد من الخنافس، فجوّفها من الداخل، فإذا بها تنهار مع أوّل هبّة إعصار، كان الحزن أكبر من كلّ الكلمات.
****
في تسعينيات القرن الماضي، دُعي إلى أحد البلدان العربيّة، وأقام فيه اثنى عشر يوماً، وخلال هذه المدّة تعرّف بعدد من الأصدقاء، ويبدو أنّ بعض أهل البلد يثقون بالضيوف في إبداء بعض المشاعر التي يحملونها، وقد لا يُتاح لهم أن يقتربوا منها بين بعضهم بعضاً، لأسباب أمنيّة بحتة.
في تلك الفترة، تعرّف إلى شاعر من أهل ذلك البلد، وهو في موقع رسميّ يستدعي أن يُتَّصَل به يوميّاً على موجات الإذاعة، وتبدو على ذلك الشاعر الطمأنينة، وشيء من الزّهو الخفيّ.. ذات مساء دُعوا إلى مطعم، وكان ذلك الشاعر موجوداً، ولم يكن غيرهم فيه، وأثناء الجلسة قال له أحد الحاضرين أسْمعنا شعراً، والمؤكَّد أنّ بعض الشعراء لديهم شهوة قراءة أشعارهم، ولو في الجبّانات، فوقف وبدأ بقصيدة يمدح فيها رأس نظام بلده، وهو على ما فُهِم كان يعرف أنّ بين الحاضرين مَن ليسوا من محبّي ذلك الرأس، وأراد أن يُرضي الجميع، فحين أشاد برأس ذلك النّظام، التفت بما يُشبه الخفاء نحو أحدهم وغمز بعينه، وكأنّه يقول له أنا مُجْبَر على ذلك.
في الفندق، تساءل كيف يعيش ذلك الشاعر حياته الداخليّة؟!! ألا يُدرك أنّه يُداهن، أو يكذب؟!!
بعضهم يصنّفها بينه وبين نفسه على أنّها ذكاء وشطارة، ربّما كان في ذلك التقييم شيء صحيح، ولكنّه الذكاء الشيطاني، لا الذّكاء الرحمانيّ المنير،.. تُرى ألا يتمتّع جميع اللصوص والمحتالين، والسرّاقين بذكاء إبليسي يوصلهم إلى مبتغاهم؟!!
قفز إلى ذهني صديق أمضى حياته يصارع من أجل لقمة العيش النّظيفة، وله سُمعة طيّبة، وذات عام دُعي إلى الانتماء لأحد أحزاب الجبهة، وشعارات هذا الحزب لا تتنافى مع ما يؤمن به،.. دُعي بتكريم واحترام، وأدرك أنّ من دعاه صادقاً ومحبّاً، سوف يسعى ليجعل حياته أقلّ معاناة وقسوة، فاعتذر، وأُعيدتْ الدعوة أكثر من مرّة، اعتذر بلباقة وحياء، وحين سُئل قال: “لا أستطيع سماع كلمة انتهازي، على الرغم من إيماني بالمبادئ.
قفزة أخرى للذهن كانت، فقد تساءل كيف يستطيع شاعر أن يكون تحت الطلب حين يُطلَب منه، وتذكّر صديقاً شاعراً يقف على المنابر منذ أكثر من أربعين عاماً ، وله عشرات المجموعات الشعريّة المطبوعة، صارحه بأنّه حين يقدّمونه باسم شاعر يشعر بالحرج، لأنّه يحسّ أنّ اللفظة أكبر، بل وقُدّم ذات مرّة في أمسية مع آخرين، قُدّم باسم الشاعر الكبير فخجل، وقال عبر “المايكروفون”: “نعم أنا شاعر كبير، فأنا أكبر عمراً من أصدقائي الشعراء الموجودين”.
aaalnaem@gmail.com