الأجيال الجديدة تتحدى تكنيكات “مكافحة الهراطقة”
بسام هاشم
لا يمكن تفسير كل هذا الخروج الإسرائيلي عن السيطرة إلا بأن المعركة الإيديولوجية بلغت أقصى حدود الشراسة؛ ذلك أن الفظائع التي نشهدها الآن في غزة إنما تغذيها الرغبة المعلنة في الاستحواذ على ما تبقى من فلسطين التاريخية، وطرد السكان العرب لإقامة أغلبية يهودية دائمة ضمن حدود “دولة جديدة موسعة” كان عرض نتنياهو خارطتها، في أيلول الماضي، على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة. وما الإبادة الجماعية المفتوحة في غزة، وما محاولة تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، إلا تتويج لهدف فرض معادلة “أكبر قدر ممكن من فلسطين مع أقل عدد ممكن من الفلسطينيين فيها”، والتي كان وايزمان أول من روّج لها.
والحقيقة أن غزة تشهد، منذ أكثر من ثمانية أشهر، مستوى من القتل الهمجي لا يذكّر إلا بنهاية العالم، حيث تزهق الأرواح، وتذبح النساء والأطفال، في معسكرات اعتقال متنقلة، لسبب لا يمكن إرجاعة إلى مجرّد شهوة محضة للقتل، ولا إلى رياضة دموية خالصة، ولا إلى سلالة من ذهان إجرامي لا مثيل له، ولا إلى الحاجة للشعور بالتفوق من خلال ارتكابات إجرامية ممعنة في الترويع والصدمة.. كل ذلك لا يفي بالغرض، فما يجري أكثر قتامة: إجبار الفلسطينيين، مجموعات وراء مجموعات، على النزوح باستمرار، وتحويلهم من مكان إلى آخر كشكل من أشكال التعذيب، وزرع مشاعر الخوف وانعدام الأمن، بعد تدمير منازلهم، وقتل أو جرح أفراد عائلاتهم، وحرمانهم من إمكانية الحصول على الغذاء والماء، وإحالة حياتهم بأكملها إلى أنقاض، وكل ذلك بهدف نهائي هو إجبارهم على الفرار، أي أن يغادروا وطنهم طواعية، ما يسمح لـ”إسرائيل” بالسيطرة على المنطقة بأكملها، “من النهر إلى البحر”، وهي الخطة الصهيونية القائمة منذ البداية.
والواقع، وعلى إيقاع هذا الإجرام اليومي والتاريخي، فإن ما تحتاجه عملية إعادة بناء الشرق الأوسط الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة – أو ما سمّاه بايدن “حلم الأجيال” – هو “نهاية غزة”، أي السحق المنهجي لأي مقاومة فلسطينية منظمة في مواجهة الهيمنة الإسرائيلية. ولكن المفاجأة أن ردّة فعل عالمية مضادة بدأت تتصاعد، بل ووصلت إلى الولايات المتحدة نفسها: هناك حركة متنامية لدعم فلسطين ليس فقط في الجامعات الأوروبية، ولكن أيضاً في الجامعات والمؤسسات والشوارع الأمريكية، وحتى في أوساط الحالية اليهودية، فقد استقال العديد من المسؤولين الأمريكيين بسبب اختلافهم مع سياسة بايدن تجاه غزة، وأضرم جندي شاب النار بنفسه حتى الموت، في بادرة غير مسبوقة بتاريخ الولايات المتحدة، ونادرة للغاية في أي مكان في العالم، احتجاجاً على تورط واشنطن في المجازر الإسرائيلية، واعتصم عشرات الآلاف من طلبة الجامعات.. وليس فقط احتجاجات، بل وأظهرت استطلاعات الرأي تحولاً جذرياً حيث يتساءل الأمريكيون، الذين نشأوا في ظل الحرب على العراق وأفغانستان، عن تلك العلاقة غير المشروطة مع “إسرائيل”، وعن ذلك التحالف الذي لا يراعي مصالح إلا جهة واحدة، بل ويوجهون انتقادات صريحة بشأن هيمنة اللوبي الصهيوني على السياسة الخارجية الأمريكية.. لقد سلّطت الاحتجاجات الطلابية الأخيرة الضوء على الاختلافات بين الأجيال الأمريكية، وتحدت تكنيكات “تأديب ومعاقبة الهراطقة”، وقد تضع السياسة الأمريكية أمام خيارين محددين في الشرق الأوسط: إما العزلة والتآكل، أو الابتعاد عن سياسة الدعم اللامشروط تجاه “الحليفة” الإسرائيلية. لقد غيرت وسائل التواصل الاجتماعي قناعات كثيرة، وولدت أنماط تفكير مختلفة، وها نحن نشهد، من الآن فصاعداً، تحولاً جذرياً في الطريقة التي تتم بها مناقشة القضية الفلسطينية.. إن ما لا شك فيه أن “إسرائيل” لم تعد قادرة على التحكم بتدفق المعلومات، وأن مئات الملايين حول العالم بدأوا التشكيك بقضايا لم يكونوا ليطرحوها سابقاً، والكثيرون يرغبون في سماع الحقيقة حول “إسرائيل” وفلسطين، وحول الحقائق المروعة عن الاحتلال والقهر والنزع من الإنسانية.
بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر، لا تزال المجازر المروعة تهزّ قطاع غزة، ولا تزال آلة الحرب تمعن في إحداث دمار غير مسبوق، ولا تزال الأهداف التي حددتها القوات الإسرائيلية بعيدة أو مستحيلة. وبعد العاشر من أيار، مع الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبعد الاعتراف الذي سجلته إسبانيا وإيرلندا والنرويج الأسبوع الماضي، لا يزال الأمل قائماً في أن يبرهن مجلس الأمن على التزامه بتصحيح الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني. ولكن علينا، قبل كل شيء، أن نعي تماماً أن عشرات الآلاف من الشهداء لم يفقدوا حياتهم عبثاً، وأن شهادتهم هيمنت على المشهد العالمي وعلى ضمائر الشعوب الحية طيلة الأشهر الماضية، وأن تضحياتهم كشفت ذلك الإفلاس الأخلاقي لنظام عالمي كانوا آخر ضحاياه، ولا مجال إلا أن يتغير.