من هو المثقف؟
تتردّد كلمة ومفردة مثقف بشكل كبير، وتتعدّد التعريفات لتتفق في مساحات وتختلف في أخرى، لجهة أن للمثقف مكانة في المجتمع وعند الأفراد على الرغم من الاختلاف في تعريف مَن هو المثقف، ولاسيما عندما يرتبط الأمر بالموقف والعلاقة مع السلطة، حيث العلاقة الملتبسة بينهما في مجتمعاتنا على عكس ما هو عليه الحال في المجتمعات الغربية، حيث العلاقة بين المثقف والسلطة غالباً ما كانت إيجابية لجهة أن المثقف في البلدان التي لا تسمح بتداول السلطة صاحب دعوة للتغيير، في حين أن السلطة تنحاز غالباً للاستمرار وترى في المثقف ذلك الذي عينه على السلطة، وبالعودة لمفردة ومفهوم المثقف يمكننا القول: إن كل إنسان ينطوي على ثقافة معينة، فكل الناس يحوزون ثقافة يكتسبونها ويمتصّونها من مجتمعاتهم عبر كل أشكال الاتصال والتفاعل مع المحيط لتصبح جزءاً مكوّناً لهويتهم، ولكن السؤال المهم هنا هل كل الناس يمارسون الإنتاج الثقافي بكل أشكاله أم أنه مسألة تقتصر على منتجي الثقافة؟ والحقيقة هي أن المثقف هو ذلك الشخص المنتج للثقافة بكل أشكالها وأجناسها كالشاعر والروائي والقاص وكاتب المقالة والفنان التشكيلي والكاتب المسرحي والممثل وغيرهم من منتجي الثقافة والإبداع من الفاعلين الثقافيين، فالثقافة هي فعل وفاعلية في المقام الأول، وهو أي المثقف حر فيما يبدعه، وهذا لا يلغي مسألة أن يكون المثقف ملتزماً بقضايا الناس أو قضية ورسالة هو مؤمن بها ويسعى لتشكيل وعي مطابق لرؤيته أو تيار متفاعل مع رؤيته وثقافته، وإذا كان للثقافة أنواع فكذلك هو حال المثقفين، فالمثقف والثقافة هما موقف من عالم يحيط بالمثقف أياً كان ذلك الموقف سواء كان من ثقافة مجتمعه وعاداته وتقاليده أم موقف من سلطة سياسية لا يتفق معها أو تيارات يعارضها عبر أيديولوجية يتبناها ويؤمن بها، فثمة مثقف علماني وديني ويساري ويميني وليبرالي واشتراكي وقومي وغيره، وكل تلك التقسيمات يعبّر عنها بأشكال الإبداع على تنوّعها كتابة وفناً وكل أشكال التعبير على تنوّعها وكثرتها في عالم اليوم.
وعلى هذه القاعدة ثمّة تصنيف وجدولة إن جاز التعبير للمثقفين، وغالباً ما يدخل فيه البعد السياسي والأيديولوجي وليس التصنيف المدرسي، وهنا تختلف التعريفات والتسميات على خلفية الأيديولوجيا الحاكمة والموقف من السلطة وليس من طبيعة المنتج الثقافي وأشكاله وأجناسه، فهم يشتغلون في عالم الثقافة، والسؤال هنا هل تصنيف المثقف من صعيد الإبداع والإنتاج الثقافي كافٍ أم أن موقفه من قضايا حياتية سواء كانت ذات طابع خصوصي بمجتمعه أم قضايا ذات طابع إنساني تلعب دوراً في ذلك؟ والحقيقة أن الكثيرين في المجتمعات ينظرون للمثقف من خلال مواقفه من مشكلاتهم وقضاياهم ومعاناتهم وتمثله ودفاعه عنها بمواجهة القوى التي ترى فيها تلك الجماعات سبباً أساسياً فيها.
من هنا كان تصنيف وتعريف المثقفين من مثقف ملتزم ومثقف عضوي ومثقف مشتبك، فثمّة مثقفون هم مثقفو سلطة أو تجار مواقف وتجار كلمة، وكلنا يعرف الكثير من مثقفي ما سمّي البترو دولار ومسوّقي الاستبداد ومشرعني الإرهاب في عالم سلعنة كل شيء بما في ذلك الكائنات الحية والتعامل معها، ليس بوصفها كائناتٍ معرفية أخلاقية، وإنما بيولوجية تعيش لتأكل وتستمتع دونما حس إنساني وأخلاقي ومعرفي، وليس ذلك الذي ينتمي إلى هموم الناس وقضاياهم ومعاناتهم من الفقر والجهل والتهميش وانعدام الحرية حرية التفكير والتعبير، وكذلك ليس ذلك الذي انكفأ على ذاته وتقوقع حولها دونما تحسّس لقضايا الناس وتفاعل معها، فالمثقف هنا هو ذلك الملتزم بقضايا الناس وفي دائرة أوسع قضايا البشر، وهنا يصبح السؤال إن قضايا البشرية متعدّدة ومتنوعة، وهنا يكون الحديث عن المثقف المنتمي الذي يدافع عن منظومة القيم الإيجابية التي يؤمن بها الناس أياً كانت ثقافاتهم وطبيعة مجتمعاتهم ويرفض كل أشكال الظلم والاضطهاد والاستبداد وقمع الحريات والتهميش والتسلط وغياب العدالة، فنصبح هنا أمام مثقف مناوئ ورافض ومتمرّد على كل ما تمتّ إليه من أشكال العسف والظلم وانتهاك القيم الإنسانية وأولها كرامة الإنسان بوصفه إنساناً، فهو متمرّد على البؤس البشري ويزهر تمرّده هذا في كل أشكال الإبداع وفي كل الظروف، فهو صاحب الصوت الجريء عندما يصمت الآخرون خوفاً وتردّداً، وهذا يبرز أثناء قيام الثورات والتمرّد على الاستبداد والاستعمار والإرهاب بكل أشكاله في مواجهة مَن يبرر للمجرم والدكتاتور والمستعمر والظالم جرائمه وأفعاله الخسيسة بعناوين مختلفة ومختلقة ظناً منه أنه بموقفه هذا قد شرعنها وضلل المجتمع على خلفية أنه مثقف وعالم بأسرار السياسة ومخفياتها، وأنه مستبصر مستكشف لما لا يراه غيره، فهذا النوع من المثقفين -إن جاز ت تسميتهم كذلك – هم من أخطر الناس على المجتمع، لأنه يسعى عبر لغته وخطابه إلى تزييف وعي الناس وتجميل القبيح وتقبيح كل ما هو جميل اعتقاداً منه أنه بذلك العمل يمنح شهادة حسن سلوك للمجرم والمستبد والإرهابي مدّعياً الدفاع عن الوطن والحرية وما يواجه الأمة من تحدّيات.
لقد أثبتت الظروف التي مرّت بها منطقتنا العربية خلال العقد الماضي خطورة الدور الذي يلعبه بعض الكتاب والمثقفين والإعلاميين ومطابخ السياسة والغرف السوداء في إطار تسويق ما جرى من محاولات لتدمير المنطقة شعوباً وأنظمة ومنظوماتٍ تحت عناوين مختلفة وتلطياً خلف شعاراتٍ جذابة تدغدغ مشاعر الناس وتعطشها للحرية والكرامة وسعيها إلى الخروج من دائرة الفقر والجهل والاستبداد بفائض قوة الداخل وسلميّته، وليس بفائض قوة الخارج وإمكاناته التدميرية عبر القوتين الصلبة والناعمة استثماراً في مشاعر الناس ومعتقداتهم وحاجاتهم وحسهم الديني ورأسمالهم الرمزي وعواطفهم البسيطة ليجعل منهم وقوداً في محرقة للوطن استثماراً في عناوين كاذبة مخادعة قشورها حضارة والروح جاهلية.
د. خلف المفتاح