“محاولة”.. الهروب من الفساد إلى الحصانة!!
بسام هاشم
قد تكون صناديق الاقتراع أداةً لا غنىً عنها لبناء دولة المشاركة، ولكنها لا تجسّد، في كل الأحيان، الديموقراطية الحقيقية القائمة على الاختيار “الواعي” و”الحرّ”، فقد وصل هتلر وموسوليني وجورج بوش الإبن وبرلسكوني وترامب وكبار القتلة والمهرجين الدمويين إلى قمّة السلطة من خلال الانتخابات..
ولكنك لا تستطيع أن تشكك بحق المواطن في اختيار من “يراه مناسباً” لتمثيله في المجالس والهيئات التشريعية، فهذا مبدأ دستوري متوافق عليه في كل المجتمعات الحديثة، بل وحق أساسي من حقوق الإنسان، ولا سيما حين تضع الشعوب نصب عينيها بناء مجتمعات متطورة وقوية تستمد عوامل قوتها وقابليتها للتطور من حصانة ذاتية لا يصنعها إلا وعي وطني حادّ ومرهف بأولوية المصلحة العامة، وتضافر مصالح المجموع، والشعور الجماعي بأهمّية التضامن والتكاتف لبناء المستقبل الواحد.
مع ذلك، يتعين علينا أن نعترف أن الاقتراع “الحرّ”، وحتى إشعار آخر، ليس صيغة كافية لبناء حياة تشريعية ودستورية سليمة مئة بالمئة، وهناك تجارب كثيرة، خاصة في أوروبا الشرقية، وفي بلدان العالم الثالث، ودول كبيرة اليوم، أظهرت حنيناً جارفاً للعودة إلى دولة الحزب الواحد، بل وإلى أنظمة الحكم شبه الديكتاتورية والشعبوية، لا لشيء إلا لأن “الأوليغارشيا” الصاعدة صادرت بقوتها المالية والاقتصادية، وبدعم من الغرب الأوروبي والأمريكي، القرار الوطني، وفتحت البلاد للمصالح الأجنبية.. “أوليغارشيا” تستعصي على “الإزاحة”، بفعل قوة القانون نفسه، وبفعل قدرتها على تعديل النصوص الدستورية طالما تطلّبت الحاجة لاستمرارها بالتحكم بالقرار ذلك، لنصل إلى نوع من الفراغ والعطالة: إما الفوضى التشريعية والدستورية المتواصلة والمزمنة، وإما الرضوخ لسطوة صناديق شبه ديموقراطية، كاذبة، وغير تمثيلية؟
كل ذلك ونحن نتحدث عن صناديق مختومة وعمليات تصويت تراعي كامل شروط النزاهة والشفافية. ولكن أية مأساة حين “يتواطأ” المرشح والناخب؟ وبالأحرى حين “يتواطأ” الناخب ضدّ نفسه وضدّ مصالحه؟ لقد شارك ومارس حقه الدستوري فعلاً، ولكنه “باع” صوته – بكل ما في الكلمة من قسوة – لانتماءات مرضيّة، أو لقاء مبالغ عينية وغير عينية، ولربما “تنازل عنه”، أو “أهداه”، نزولاً عند “وليمة”، أو لاعتبارات اجتماعية غير سليمة، فيما أغفل كثيرون طرح السؤال الجوهري: بماذا فكر مرشحونا لعضوية مجلس الشعب، عندما تقدموا بأوراق قبولهم؟ رفاقاً بعثيين كانوا أم مستقلين؟ ولماذا يترشّح أحدهم، ولماذا يكتفي بوضع صورته الشخصية وإظهار ابتسامته العريضة على صفحته، أو صفحات مريديه، على الفيسبوك، أو فوق لافتة عريضة على ناصية شارع رئيسي؟ وما الذي يجعل أحدنا يتصور أنه جدير بخدمة المواطنين أو التعاطي في الشأن العام ليتقدّم للترشّح؟ لاستكمال الوجاهة الاجتماعية؟ هل لكثرة “المعارف” و”المحبين”، أم لأنه يجد في نفسه الغيرة والأهلية لمتابعة متطلبات واحتياجات أبناء منطقته ومحافظته، أي ناخبيه بالمعنى التقني؟
للأسف، في بعض الأحيان، يترشّح للانتخابات (أية انتخابات لا على التعيين) أناس لا يفقهون من الشأن العام إلا خبرة المرور على بعض الدوائر والوزارات لتسيير المعاملات والعقود المالية، وقد تمتد هذه الخبرة أحياناً لتصل إلى التخوم الملتوية لإدارة مصالحهم وعلاقاتهم الخاصة، وإثرائهم غير المشروع وفسادهم واستخدامهم الدولة مطية لتمرير صفقاتهم؛ وفي أحيان أخرى، قد نجد أنفسنا أمام مجالس منتخبة عاجزة أو شبه عاجزة، لأنها مشغولة على الدوام بـ “تكتيكات متذاكية” كتلك التي رافقت مثلاً طلب رفع الحصانة عن
بعض الأعضاء المتورطين بالفساد خلال الأسابيع الماضية؛ فهل وصل الغباء السياسي والأمية الدستورية بالبعض إلى درجة التوهم بأن وجوده في مجلس الشعب، مثلاً، قد يحميه من الملاحقة القضائية، أو قد “يغطيه” بـ “الحصانة” المطلوبة، بما يعفيه من المحاسبة، أو بما يكفي من الزمن لإيجاد “المخارج” الملائمة؟
لقد تهيأ لهؤلاء أن الحصانة تعني توفير مظلة قانونية للفساد، وحماية ارتكاباته، مختلقين تعارضاً مزيفاً بين أحقية المطالبة بمحاسبة الفاسدين من جهة، وشرعية السماح لهم بالاحتماء تحت مظلة الحصانة من جهة أخرى.
بالتأكيد، يستند هؤلاء إلى حقيقة أن ما يجري العمل على بنائه حالياً هو دولة قانون مرنة وسلسة تعترف بالبراءة الكاملة للمتهم حتى تثبت إدانته، وأن المناخ الجديد قد يوفر إمكانيات واسعة للتقاضي واستمرار التقاضي إلى ما لانهاية.. ولكنه بالتأكيد نوع من التذاكي الأحمق والفاشل، فدولة القانون قادرة على إعطاء الحصانة معناها الحقيقي، كما هي قادرة على إعادة النظر بمفهوم الحصانة عندما تقتضي المصلحة الوطنية..
دولة القانون قوية وعادلة، وهي لن.. ولن تتسامح مع كل من أساء للوطن وخان ثقة القيادة.