دراساتصحيفة البعث

المناظرة الأمريكية واستحقاقاتها

ريا خوري 

أثارت المناظرة الأولى بين الرئيس الديمقراطي جو بايدن، ومنافسه الجمهوري دونالد ترامب على قناة (سي إن إن) في أتلانتا دون جمهور، الكثير من التساؤلات المهمة حول مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة أنها تناولت العديد من النقاط المهمة تعلقت بالسياسات داخل الولايات المتحدة وخارجها، وقضايا الاقتصاد الأميركي وملفات الإجهاض والهجرة وصولاً إلى الحرب الساخنة في أوكرانيا، وتلك التي يشنّها الكيان الصهيوني على قطاع غزة المحاصر.

فقد كان من نتائج تلك المناظرة ردود فعل غاضبة وكبيرة قدّمها أحد الأعضاء البارزين في الحزب الديمقراطي عبر صحيفة (بوليتيكو) الأمريكية حين قال: (جو بايدن احترق تماماً) تلك الصورة كانت كارثية في المشهد السياسي الأمريكي والعالمي، حيث إنّ الرئيس بايدن لم يكن قادراً صحياً وذهنياً على إقناع أغلبية الشعب الأمريكي بقدرته على قيادة الولايات المتحدة لفترة رئاسية ثانية يبلغ عمره عند نهايتها ستة وثمانين عاماً. فقد بدت على الرئيس بايدن علامات الضعف والوهن وغابت عنه في كثير من الأوقات قدرته على التذكر والتدفق، حتى إنه لم يتمكّن من أن يستخدم حقه في الاستفادة من الوقت المخصّص له لشرح برنامجه الانتخابي، أو إحراج منافسه ترامب.

الجدير بالذكر أنّ القضايا الاقتصادية الشائكة والمعقدة في الولايات المتحدة كانت المحور الأساسي والبند الأول على المناظرة التي قال عنها بايدن: إنّ إدارته تسلّمت (اقتصاداً كان على وشك الانهيار) من إدارة الرئيس السابق ترامب، إذ كانت البطالة مرتفعة جداً، وأعادت (إدارته الأمور إلى نصابها) للاقتصاد الأمريكي إذ أوجدت فرص عمل جديدة، وخاصة في القطاع الصناعي، لمئات آلاف المواطنين الأمريكيين، ولا سيما أنَّ السياسات الاقتصادية لإدارة بايدن أكدت عدم إضرار الشركات بالمستهلكين، موضحاً أنَّ ما كان يحصل في إدارة ترامب (فوضى)، وكان قد قدّم مثالاً على ذلك حول ما تم من خفض أسعار الأدوية الطبية مثل الأنسولين، متهماً ترامب وسياساته الفاشلة بكونها ركّزت على الأثرياء دون غيرهم من الأمريكيين، فقد قام بتخفيض الضرائب للأثرياء الذين يدفعون فقط 8% من الضرائب المستحقة عليهم.

من جهته، ردّ ترامب على تلك الاتهامات، بأنَّ إدارته سلَّمت إدارة بايدن (أعظم اقتصاد في التاريخ الأميركي على الرغم من جائحة كوفيد 19 كورونا)، وسعى إلى التوسّع في الإنفاق لتلافي الكساد، وأنَّ السوق المالية في ظل إدارته كانت في أفضل حالاتها، والوظائف التي يتغنى بها بايدن خلقها للمهاجرين بأعدادهم الهائلة وليس للأميركيين، كما دافع عن سياسات وضع رسوم جمركية، مؤكداً أن هذا سيوفر المال الكثير لخفض العجز ويمنح الاقتصاد الأميركي قوة كبيرة، وحتى الإعفاءات الضريبية تحفّز الشركات الكبيرة والمتوسطة. وأعاد بايدن وترامب في وقت لاحق من المناظرة تبادل الاتهامات، فقد قال ترامب: إن (بايدن سبَّب التضخّم، وأثر في العائلات من أصول إفريقية بشكلٍ كبير)، وردّ عليه بايدن: (لقد قدّمنا إعاناتٍ مادية للأسر، وحاول أكثر من مرة القضاء على برامج الرعاية الصحية التي تخص الأمريكيين).

عقب المناظرة، أوضح استطلاع للرأي أن 67% رأوا أن ترامب قد ربحها، وأنه لم يكن مقنعاً بقدر ما كان بايدن سيئاً. وكانت الصدمة كبيرة ومدوّية داخل الحزب الديمقراطي، وكأن الانتخابات الرئاسية قد حُسِمت من الجولة الأولى.

فقد اعترفت كاميلا هاريس نائبة الرئيس بحجم الصدمة وآثارها السلبية، لكنها عزت الصورة التي بدا عليها بايدن في بداية المناظرة إلى حالة الوهن والمرض إثر نزلة برد ألمّت به!.

ونحن نتابع المشهد السياسي الأمريكي من رجلين حالي وسابق متقدّمين في العمر ينسب كل منهما إلى الآخر أنه (أسوأ رئيس شهدته أمريكا بل في التاريخ).

الموقف المشترك بين ترامب وبايدن في المناظرة هو الانحياز الصريح والواضح للكيان الصهيوني، حيث بدا ترامب أكثر استعداداً لدعم العمليات العسكرية الصهيونية الإجرامية حتى تحقق كامل أهدافها في حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، دون النظر إلى الأخطار والعواقب المروّعة التي تلحق بالمدنيين الفلسطينيين الأبرياء من إبادة جماعية وتجويع منهجي مدروس، كما تجاهل كلا المرشحين الاحتجاجات الهائلة التي عمّت معظم الولايات والمدن الكبرى وجامعات النخبة الأمريكية تضامناً مع الشعب العربي الفلسطيني وعدالة القضية الفلسطينية، كأنها لم تكن. لقد أخذت العدوانية والعنصرية المفرطة مساحةً كبيرةً من منظومة تفكير المرشحين للرئاسة الأمريكية، فقد كان موقفهما عدائياً ضد كل ما هو إنساني وعادل وأخلاقي، حيث وصف ترامب خصمه بايدن بالفلسطيني السيّئ والضعيف في التعامل مع الكيان الصهيوني. وكان كلا المرشحين لانتخابات الرئاسة الأمريكية قد هربا من الإجابة عن سؤال (حل الدولتين) وأنهما لن يوافقا على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس.

لم تكن عند ترامب أيّة تصوّرات لليوم التالي باستثناء الدعم المطلق للكيان الصهيوني الغاصب والمجرم والدعم غير المحدود لحكومة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو الأكثر يمينية وعنصرية في تاريخ الكيان الصهيوني، وأنَّ العمل الحقيقي هو القيام بمشروع تقويض كامل لحقّ الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه، وذلك من خلال القيام بتقديم مشروع مكتوب بصياغة أخرى، أنه مشروع صدام آخر يلوح في الأفق المسدود لأي حل. وأعفى بايدن الكيان الصهيوني من مسؤولية إجهاض خطته لوقف إطلاق النار في قطاع غزة وتبادل الأسرى والمحتجزين، وحمّل المسؤولية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحدها دون غيرها، لكنه أردف قائلاً: (ما زلنا في الولايات المتحدة نضغط على “إسرائيل” لتقبل الخطة المقترحة). وكان قد أكّد أنه على “إسرائيل” أن تكون حذرة في استخدام القنابل الثقيلة في المناطق السكنية المأهولة في قطاع غزة المحاصر، كما تم الحديث عن دور الولايات المتحدة في التصدّي للصواريخ والمسيرات الإيرانية ضد الكيان.

لم تخلُ المناظرة من الحديث المطوّل حول ما يجري في أوكرانيا، حيث استغرق النزيف الاقتصادي والمالي والعسكري واللوجستي مداخلة ترامب لاجتذاب قطاعات واسعة من الرأي العام الأمريكي، مع أنه أكّد عدم استعداده لقبول شروط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تجنّباً لأية شبهات تحاصره. فقد وصف ترامب الرئيس بايدن بأنه بسياساته الخرقاء يمكن أن يقود العالم إلى حرب عالمية ثالثة.

وفي الختام رفض المرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري ترامب إبداء أدنى استعداد لتقبّل نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة إذا لم تكن نزيهة وعادلة وشفافة.