“الاستئناس” والحزب والديمقراطية
أحمد حسن
نظرياً، يمكن الآن القول إن حزب البعث العربي الاشتراكي طوى مرحلة الاستئناس الحزبي. عملياً لا ولن يقال ذلك لسبب مهم يتمثّل بأن المعلن والمضمر في طرح فكرة الاستئناس ابتداءً كان قد افترض ارتقائها ونقلها من حالة إجرائية بحتة إلى مساحة مفتوحة مطلوبة ومحفّزة للنقاش والتفكير والتدبير للاستفادة من دروسها المتعددة، وذلك تحديداً ما أكّدته الوقائع التي رافقت العملية الإجرائية بكل ظروفها وحيثياتها ونتائجها، وذلك أيضاً ما أكّده مسار النقاش وعُمقه، وامتداده الزمني، في القيادة المركزية للحزب حول موضوع “القوائم” للمرشحين إلى مجلس الشعب في جميع المحافظات.
وربما كان أول الدروس التي يجب بحثها جيداً هو فكرة الاستئناس ذاتها، لفظاً وممارسة، وارتباطها بفكرة الديمقراطية، نظرية وممارسة، وتحديداً من حيث قدرتها على “ضخّ” جرعة قوية من هذه الأخيرة في شرايين العمل الحزبي، في هذه اللحظة الحافلة والمثقلة بكل ارتدادات الحرب الضروس التي شُنت على البلاد والعباد في الآن ذاته، والتي جعلت، بحكم الواقع، من هذه “اللحظة” صاحبة وزن تثقيليّ مانع – على ما بدا – لاستكمال الجهد الديمقراطي حتى نقطة النهاية الطبيعية له، وهذا ما يطرح سؤالاً في غاية الأهمية مفاده: هل كان يمكن لهذه “العينة” الحزبية التي قامت بفعل الاستئناس – وأغلبها من الكوادر التي اعتادت العمل في مسارات “الجوّ” السابق – التخلّص من كل حمولاتها ما قبل الحزبية، ومن تأثيرات الحرب التي انعكست فعلياً على الوضع المادي بصورة مهولة، وعلى الوضع الاجتماعي المتراجع نحو الانتماءات الأوليّة، لتمارس الديمقراطية؟
وإذا كان هذا السؤال الأول، فإن الثاني يرتبط به مباشرة، وهو يدور حول اقتصار “الاستئناس” الذي يعني، لفظاً، سبر آراء الآخرين – القاعدة الحزبية – في موضوع معين، على كوادر حزبية معينة دون أن يمتد إلى القاعدة الحزبية بأسرها ليحقق أكبر حالة تمثيلية ممكنة كما هو مفترض بالأمر أن يكون.
بكلمة أخرى، يمكن القول إن “الاستئناس”، كفعل ديمقراطي محدّد، خضع للمصاعب والعوائق ذاتها التي تواجهها الديمقراطية في منطقتنا، أي تلك المتعلقة بتراكمات تاريخية موروثة، وبجوانب ثقافية ونفسية، إلى جانب العوائق المادية المتمثلة بالفساد والمال الانتخابي وشراء الأصوات؛ وهذا الأخير يستدعي السؤال عن المسعى الرئيس لم “المال الانتخابي؟” و”لماذا؟”.. فإذا كان بعضهم يبحث عن الوجاهة الاجتماعية، أو يعبّد طريق طموحه السياسي، فإن بعضهم الآخر لا يبحث إلّا عن “الحصانة”، فقط لا غير، وهذا ما يفترض مواجهته بأمرين، أولهما التأكيد الدائم على أن حصانة عضو مجلس الشعب تتعلق، بحسب الدستور، بـ”القول” و”التصويت” داخل المجلس “في الجلسات العلنية أو السرية وفي أعمال اللجان”، وليس بـ “الفعل” المشين خارجه، وبالتالي ليس بـ “الفعل” غير القانوني و”المشين” الذي أوصله للمجلس، وهذا يعني لاحقاً أنه من الضروري مساءلة “المجلس”، وأعضائه، عن تأخره وتأخرهم في رفع الحصانة إذا كان الملف القضائي الوارد إليهم محكماً، وإلا يعتبر الأمر تعاضداً بين فاسدين، وتلك المحاسبة هي ما فعلته القيادة المركزية مؤخراً اتجاه بعض أعضاء الحزب، وهو ما نتمنى أن نراه يستمر لاحقاً كأسلوب رقابة معتاد في كل الدول الديمقراطية.
بيد أن ذلك كلّه لا يعني أبداً التوقف والعودة إلى التعيين الكامل، فالديمقراطية لا تنمو وتزدهر إلا بالممارسة والتعلم، ولذلك فإن هذه “اللحظة” ذاتها التي سبق الإشارة إليها هي – وتلك مفارقة الديمقراطية الأثيرة – ما فرضت أيضاً اتباع سبيل “الاستئناس” باعتباره “فعلاً” واعياً لاجتيازها نحو أفق أوسع وأفضل، وهذا أيضاً ما يفرض، مرحلياً، الدمج بين الاستئناس كشكل من أشكال ممارسة الديمقراطية، وبين التعيين المركزي لتلافي وإغلاق الثغرات المشار إليها سابقاً، وإعادة التأكيد على ذلك وفعله جديّاً هو تحدّي الفترة القادمة ليشكل مع قضية تطوير “الاستئناس” وتعميقه، جناحي الانتقال إلى ما هو قادم.