تحقيقاتصحيفة البعث

التربيّة والتعليم… تحدّيات الحرب ما قبلها وما بعدها

تقلص التعليم في المدارس إلى حدوده الدنيا، وذلك بعدما فرضتِ الحربُ شروطها على قطّاع التربية والتعليم، ودفعت به إلى الأسفل على سلّم الأولويات، علماً أنه ركن أساسي في الاقتصاد الوطني لأنه يستثمر في المستقبل، سواءً تربوياً أو ثقافيّاً أو علميّاً، فالمجتمعات تنهض بطاقاتها البشرية، وبضعفِ هذا الركن تضعف كلّ أركان المجتمع وعلى كافة الأصعدة والمستويات.

تزداد حدّة الأزمة والمعاناة في القطاع التربوي والتعليمي إذا ما تدّرجنا من المناطق التي بقيت تحت ظلّ الدولة السورية إلى المناطق التي خرجت عنها لفترة قصيرة أو طويلة، وصولاً إلى المناطق التي ما زالت خارج نطاق سيطرة الدولة، ويختلف شكل المعاناة مع من اضطرّ للنزوح داخليّاً أو خارجيّاً، ولكن يمكن القول، إنّ كامل المشهد كان وما زال صعباً لأنه لن يعني أبداً الماضي أو الحاضر، وإنما أيضاً المستقبل، لأن التربيّة والتعليم هما استثمار في المستقبل.

ويعود ضعف العمليّة التعليميّة لأسباب عدة، منها الألم الشخصي للطلاب لفقدانهم لبعض ذويهم وزملائهم على مقاعد الدراسة، وبسبب التحاق عدد من المعلمين والمدرسين بالخدمة الإلزاميّة والاحتياطيّة، وما شكّله ذلك من نقص في الكادر التعليمي والتربوي وانعكاس ذلك على مستوى التعليم.

وإذا ما حاولنا الحديث عن التربيّة والتعليم للنازحين داخليّاً، فسنجد أن شكل النزوح اختلف وفقاً لزمانه ومكانه والوضع المادّي للعائلات، فبعض العائلات نزحت مبكراً قبل اشتداد المعارك إلى مناطق أخرى داخل القطر أكثر أماناً لاستشعارها بأن المعارك ماضيّة نحو مزيد من التصعيد، فاستقرت في البيئات الجديدة وأوجدت لنفسها أعمالاً استطاعت من خلالها تحقيق انتظام دراسة أبنائها في النظام التعليمي الرسمي للدولة، ولكن هذا لم يكن بالتأكيد دون تأثير على الأبناء الطلاب الذي تركوا مدنهم وأحياءهم ومدارسهم وزملاءهم ومعلميهم بالإضافة إلى ما حملوه معهم من ذكريات الألم في رحلة النزوح.

شريحة أخرى كان نزوحها الداخلي أشدّ إيلاماً لأنّه حصل على وقع الإرهاب، فوصلوا إلى حيث وصلوا يعانون، إضافة إلى معاناة القسم الأول، من مشاهدات القتل والدمار ومن كوابيس ما لحق بهم بسبب ما عاشوه في ظلّ الإرهاب ورحلة النزوح والخسارات على المستوى المادّي والشخصي والعائلي وزملاء الدراسة والمدرسة ورفاق الحي وذكريات الزمان والمكان.

أما بالنسبة للنازحين خارجياً، فنلاحظ أن مناطق الشمال نزحت بمعظمها إلى تركيا، ومناطق الغرب نزحت إلى لبنان، ومناطق الوسط والشرق نزحت بمعظمها إلى الأردن، وقد اختلف تأثير النزوح على الطلاب حسب واقع البلد، ومستوى الخدمات التي قدّمت لهم في البلدان التي نزحوا إليها، ووضع البلد وموقفه السياسي من الدولة السوريّة ومدى استقلال قراره السيادي، والتجاذبات السياسية والدينيّة والطائفيّة في تلك الدول ومقدّراتها الاقتصادية.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفرص سمحت لبعض النازحين السفر إلى دول عربيّة غنيّة أو الهجرة إلى دول غربيّة، فتوفرت لهم بذلك فرص تعليم أبنائهم، كما سمحت الأوضاع الماديّة الجيدة لبعض النازحين بالعيش في المدن، وهذا مكّنهم من تأمين أبنائهم في مدارس جيدة، ولكنّ طلاب هذه الفئة لم يكونوا بعيدين عن التأثيرات الاجتماعيّة والنفسيّة للحرب وظروف نزوحهم.

أما الفئة الأخرى أُجبرت على البقاء في المخيمات، وهذا جعل مستوى التعليم الذي يتلقوه في حدوده الدنيا، وكثير منهم أحجموا عن إرسال أبنائهم إلى المدارس، ولجئوا إلى تزويج بناتهم في سنّ التعليم الإلزامي مقابل مبالغ مالية لتحسين ظروف معيشتهم، فالتعليم في هذه الظروف لم يعد أولوية، فحلّت محلّه لقمة العيش والمخاوف من الأجواء الجديدة التي حملت الكثير من مظاهر التنمّر والتمييز والاستعلاء.

وإذا ما تطرقنا إلى واقع التربيّة والتعليم في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة فسنلاحظ أن العملية التعليميّة والتربوية تعرّضت للخطر الأشدّ في هذه المناطق، فقد فرضت الجماعات الإرهابية المسلّحة الأنموذج التعليمي والمناهج التي تناسب أفكارها وعقائدها وأهدافها، فأخرجت الإناث من المنظومة التعليميّة، وجعلت أبجديات التعليم بما يخدم بقاءها واستمراريتها.

في هذه المناطق نمت أجيال على صوت السلاح والفكر الهجين بين أصوليين سوريين ومرتزقة، فنشأ جيل كامل بعيد عن الانتماء إلى الوطن السوري في تربيته وثقافته وتعليمه، وهو الجيل الذي سيحتضن الجيل الذي سيلحقه باعتبارهم جيل الآباء والأمهات.

كما نشأ في هذه المناطق جيل العنف والفكر المتطرّف، وفكر الأنثى في بيتها، والذكر على خطوط النار، بمن فيهم صغار السن، ما فرض فرزاً جندرياً حاداً يتصدّر فيه الذكر المشهد فيما تتراجع الأنثى إلى المراتب الأخيرة، فحُرمت من التعليم والحياة العامة، وهذا يحمل في مضمونه ونتائجه خطراً كبيراً على العمليّة التربوية نظراً لأهمية الأمّ الواعيّة في التنشئة.

إن التربيّة والتعليم عمليّة تراكميّة، والأبوان غير المحصّنين تربوياً وتعليمياً سيكونان غير قادرين على تنشئة جيل فاعل وواعد، فمعظم العوامل التي أثّرت على العمليّة التربوية والتعليميّة في سورية كانت أصعب من أن تستدرك خلال الحرب، فالمؤامرة الكبيرة والحرب التي فرضت ظروفها وقوانينها عطّلت العملية التربوية والتعليميّة، وأخرجت إلى حدٍّ ما جيلاً كاملاً خارج الزمان وعمليّة البناء التراكمي، وهذا الواقع بحاجة إلى تأسيس هيئة خاصة لدراسة واقع وتحديات قطاع التربيّة والتعليم، وأن ينبثق عنها لجان تضم اختصاصيين في جميع المجالات التي تتصل بالأزمة، والتعامل مع تحديات القطاع التربوي والتعليمي كأولوية اقتصادية لأهميّته في تهيئة الطاقات البشرية ودورها في بناء المستقبل، إضافة إلى اعتماد الأسس العلميّة والمنهجيّة في قراءة وتحليل التحديات التي واجهت وتواجه كلّ من هذه التجمعات دون إغفال أيّ عامل من العوامل التي أثّرت فيها حتى تأتي المقترحات والخطط والآليات ملائمة تماماً لها، فالتشخيص الخطأ يدفعنا إلى الطريق الخطأ، والتشخيص غير المكتمل يؤخر من عملية التشافي، كما أنه علينا عدم إغفال البعد الاجتماعي والنفسي للأزمة، وتأثير ذلك على العملية التربوية والتعليميّة، بالتوازي مع إحداث اختصاصات ودراسات جامعيّة وتخصصات عليا، ليس فقط نتائج الأزمة، وإنما أيضاً في أسبابها دون إغفال التقصير والخلل التربوي والتعليمي الذي أضعف حصانة المجتمع وجعل الأزمة أكثر كارثيّة، وأن تتمّ الاستعانة بالخبرات السورية التخصصيّة في الخارج.

وأخيراً.. لا بدّ من إعادة النظر في مفردات النظام التعليمي والتربوي المعمول به حالياً وإخراجه من سجن التلقين والببغائية إلى رحاب العقل والتفكير والتفكّر، وأن تكون المقاربات غير تقليدية، وأن تكون علميّة وتخصصيّة، وألّا تكون الخطط المعتمدة ارتجالية وتنطوي على مزاودات أو خطاب إعلامي، وأن يتمّ اعتماد خطّة زمنيّة طويلة المدى، فما تمّ تخريبه في سنوات الحرب لا يمكن إصلاحه بتوجيهات أو قرارات.

أيمن أحمد علوش
دكتوراه في السياسة الدوليّة – دبلوماسي سوري متقاعد