قصيدة النثر.. تطورها ومعاييرها وحضورها في سياق الثقافة العربية
حمص- سمر محفوض
قصيدة النثر معاييرها وحضورها في سياق الثقافة العربية وتطورها كانت جزءاً من محتوى محاضرة الشاعر محمود نقشو التي استضافها فرع حمص لاتحاد الكتاب العرب وسط حضور كبير من أعضائه والمهتمين بالشأن الثقافي.
وسلط نقشو الضوء على المفهوم الشعري الذي تتكئ عليه القصيدة النثرية وفاعليتها التمردية، وخصائصها في مراحل حضورها المختلفة واستيعابها للفنون والعلوم والآداب المغايرة والمتعدّدة أيضاً، موضحاً أنها باتت شكلاً أدبياً مستقراً في رسوخها منذ أكثر من قرن في المشهد الشعري العالمي، ومنذ ما يزيد على النصف قرن في المشهد الشعري العربي، متجاوزة بذلك الكثير من الاتهامات التي تراوحت ما بين إنكارها عن الشعر كلياً وإلحاقها بالنثر كأحد فنونه، متخذين من الإيقاع الشعري مقياساً لها ورفض وجودها من أساسه في أحيان أخرى، باعتبار أنها تعبّر عن فلسفات وجماليات لا تتقبلها الذائقة المعتادة، وافتقادها للأسس النظرية التي يمكن الرجوع إليها عند الحكم على إبداع نص ما، مع الإشارة إلى أن غالبية الرؤى المنتقدة توقفت عند النماذج اليومية الضعيفة للنثر دون البحث عن النصوص القيمة.
وأشار المحاضر إلى أن فكرة قصيدة النثر انبثقت من مفهوم الفوضوية والهدم بدلالتيهما الإيجابية التي تعني التمرد على الشكل واللغة، والتحرر من قوانين علم العروض وإيقاعاته وأوزانه المختلفة، أملاً في إيجاد إيقاع جديد يتبدى للمتلقي عبر النص وتراكيبه وإيحاء مفرداته لإيجاد أشكال جديدة من التعبير، لافتاً إلى أن فكرة الفوضوية والهدم لا تعني الإقصاء، بل التحرر من قيد التقاليد الشعرية السابقة والسعي إلى إيجاد رؤى إبداعية جديدة بمفاهيم فلسفية عميقة تتعاطى مع الفن الحديث بوصفه حقيقة مخالفة لحقائق الحياة المألوفة، ومشيراً إلى أن المعرفة لا تخلق إلا في لحظة الاكتشاف والفهم العميق لمكوناتها، وإلى أن عدداً من الكتّاب العرب أبدع بهذا الشكل الشعري الحديث وأغنى المشهد الثقافي العربي بإنتاجه مثل محمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال وساركون بولص وآخرون. وأكّد المحاضر أن المعيار الفني سبق أن حدّدته “سوزان برنار” بثلاثة معايير وهي: الوحدة العضوية، فقصيدة النثر نص إبداعي وبناء يصدر عن إرادة إبداعية واعية لدى المبدع، والمعيار الثاني المجانية، وهو شكل جديد لا علاقة له بالأشكال الإبداعية الموجودة حتى لو وظف تقنياتها في النص، أي أنه مجانيّ ولا زماني غير خاضع لأي أنماط مسبقة وإن كانت لديه القدرة على احتوائها وعلى تقديهما برؤية وروح جديدة.
أما المعيار الثالث الذي أشار إليه المحاضر فهو الكثافة والاستفادة من الخاصية الشعرية في الكثافة اللغوية والإشراقة التعبيرية التي تمنحها قصيدة النثر، لأن قوة الشاعرية تتأتى من تركيب يتخذ من الإيجاز مذهباً وأسلوباً، أما عن الإيقاع فإنّ الهدف منه إيجاد أشكال لا نهائية من الإيقاعات المعتمدة على تباين الحالات الشعورية للمواقف الفردية، ضمن أفق مفتوح، مضيفاً: “ينبغي على الناقد أن يتعامل مع هذا النوع من الإبداع بوصفه وحدة متماسكة الأجزاء، يدرسها ويحلّلها داخل إطار يجمعها في عمل فني مطلق، مؤكداً أن التعبير الجمالي المقدّم داخلها لا نهائي في قراءته وتحليله ودراسة تأويلات مدلولاته وسياقاته، بحثاً عن المنجز الإبداعي الذي يتضمنه، وهذه القيمة المعيارية تجعله مرهوناً بتحقيقه مفهومي التجاوز والتخطي ونزع السقف الإبداعي المقدس الذي يمنح المنتج الشعري هالة تحيط فيه لا ينبغي تخطيها.
وبيّن نقشو في جانب من المحاضرة أن قصيدة النثر تحتوي عالماً يموج بالحركة والمراجعات، متيحةً الفرصة أمام طرح الأسئلة وتحفيز الإجابات، وأضاف أنها تمتلك نزعة الهدم والبناء لخلق رؤية جديدة، وهو ما تهدف إليه أيضاً الحداثة من محاولة إضفاء الطابع الجمالي على الأشياء، مشيراً إلى إمكانية قول إنّ قصيدة النثر هي ذلك الشكل الفنيّ الذي يسعى إلى التخلّص من قيود نظام العروض في الشعر العربيّ، والتحرّر من الالتزام بالقواعد الموروثة في القصائد التقليديّة، من دون الخروج عن اللغة العربية الجليلة شكلاً ومضموناً، داعياً شعراء النثر المبدعين إلى تقديم نصوص حقيقية تغني المشهد الشعري العربي، خصوصاً في زمن منصات التواصل الاجتماعي التي أتاحت الفرصة لاستسهال الكتابة تحت مسمّى النثر من قبل أنصاف المبدعين.
وانقسمت المداخلات -التي تلت المحاضرة وأغنتها- إلى مؤيّد بشدة لقصيدة النثر كجنس أدبي أكّد حضوره في كل المنابر، معدّين إياها جزءاً من حاجة العصر إلى التوظيف الدلالي، حيث تكثيف الإشارات والانتصار للشغف، ما أوقع شعراء الموزون في إشكالية تجاوز المأزق، ليؤكد القسم الآخر أهمية وبلاغة القصيدة العامودية بوصفها الشكل الأمثل للتعبير الشعري والذي لا يريد الشعراء الانعتاق والخروج عن سحر وجماليات كتابتها.