الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

أنطون تشيخوف!

حسن حميد

يدقّ قلبي ويرتجف كلما مرّت بي ذكرى رحيل تشيخوف (1860 – 1904)، ذلك لأن سؤالاً مكروراً يلتهمني، وفي كلّ مرة، فحواه: هل رحل تشيخوف حقاً؟ وكيف لعشاق القصة القصيرة التمتّع بقراءة نصوصها منذ قرن وأزيد، وهم يفتقدون حضور تشيخوف؟ أقول هذا لأن نقّاد مدوّنته القصصية، ومذ رحل في عام 1904 تخوفوا من أفول أهمية هذا الجنس الأدبي وتلاشي جماله، وذلك لأنّ قصص تشيخوف شكّلت نوعاً من التحدي لأي موهبة قصصية في العالم تحاول الوصول إلى الذروة التي وصل إليها تشيخوف في معرفة أسرار هذا الفن الذي سُمّي بـ “فن الرجل الصغير”، وكأن هؤلاء النقاد العشاق لأدب تشيخوف نسوا طبيعة الزمن الجوّاد دائماً بالمواهب والاشتقاقات والبراعات، أو نسوا أنّ لكل زمن، مهما كانت حالاته وظروفه، رجاله أصحاب المواهب الثقيلة، وقد كان تشيخوف، في زمنه، أحد هؤلاء الرجال الكبار.

لقد عرفت قصص تشيخوف لغات العالم كلها، وهذه اللغات كلها عرفت بعض قصص تشيخوف، وليس كلها، فأجمع أهل المعرفة أن هذا الرجل، وبعيداً عن الجهات (الشرق- الغرب- الشمال- الجنوب)، والمذاهب، والفلسفات، والتطور والتخلف، والألوان، والذائقات، أنه سيّد فن القصة القصيرة، فقصصه إنسانية، حاملة لهموم القيم النبيلة حين تهان، أو ترمى، أو تحيد، أو تظلم، صحيح أن لقصصه فضاء جغرافياً هو البلاد الروسية، لكن الصحيح أيضاً، هو أن تشيخوف، وبموهبة فذة، نقل قصصه إلى فضاءات جغرافية أخرى، فظنّ الناس، في الدنيا كلها، أنّ قصصه كتبت من أجلهم، أياً كانت جغرافياتهم، وهذا أمر لا يحققه سوى أهل المواهب الفذة حقاً، ولا تصل إلى ذراه سوى الأرواح التي عرفت أسرار الجمال التي يختزنها علم الكلام، وما يحلم به الفن السامي، فقصة تشيخوف عن الرجل الحوذي الذي يعمل على عربة جرّ، تنقل الناس من مكان إلى آخر، ولا يجد من يستمع إلى خبر ابنه الذي توفي تواً، وهو يودّ مواساة نفسه بإخبار الآخرين لكي لا يطق عقله، أو ينفجر قلبه، ولكن ليس لدى الآخرين من وقت، حتى لو كان قصيراً جداً، كي يسمعوا الخبر، لذلك يجالس حصانه، في المساء، قرب مذوده، وداخل الإصطبل ليخبره بخبر ابنه الذي رحل، فكان الحيوان أقرب إليه وأوفى من البشر؛ إنها قصة محتشدة بالأسى مثلما هي محتشدة بالفقد المركب، فقد الابن، وفقد الناس، وفقد معنى الاجتماع، وهذه القصة شاعت لأنها لا تخصّ فضاء جغرافيا واحداً، كروسيا مثلاً، وإنما هي قصة جديرة بأن تعمّ العالم لتهزه.

أشير إلى هذه القصة، وإلى موضوعها تحديداً، لأنها لامست وتراً إنسانياً على درجة كبيرة من الغنى، فالمرء أياً كانت رتبته في الغنى والجاه والمكانة، يرعبه الفقد ويزلزله الفراق في لحظة ما، وهو بحاجة إلى اجتماع الناس لأنّ في اجتماعهم أكثر من إنصات وسلوى، وأكثر حمولة من صفحة مرآة.

قصص تشيخوف، أوجدت مدارات جديدة لفن القصة القصيرة الجديد، والحديث، والباقي، والأزلي، مثلما أوجدت روحاً جديدة لكتابة القصة القصيرة بعيداً عن العتبات الطويلة الممدودة، وبعيداً عن التفكير والذهنية، وبعيداً عن الاستئناس بالفلسفة، وبعيداً عن الهذر والثرثرة والظن بأنّ الغباء يحكم العالم، ويعمّ الناس، تشيخوف جعل البساطة فناً، والحكي فناً، والهوامش والنوافل موضوعاً رئيسياً، من أجل أن يقول: إن الإنسان هو بركة هذا العالم، وهو مرآته التي تشخص سلوكه وصورته وما استبطنته نفسه!.

وفي كلّ مرة، وأنا تحت ثقل ذكرى رحيل تشيخوف، أسأل نفسي: كيف استطاع من قرأ قصص تشيخوف من الكتّاب والأدباء أن يبدع قصصاً توازيها في الجمال، والمكانة والهيبة؟، وقد كان هؤلاء كثرة لا قلة، وهؤلاء ما كانوا أيضاً طفرة، ولا هم من الناجين من التفاهات والشطط والظنّ بأن البعد عن القيم أو الشغب عليها.. بطولة، هؤلاء كانوا كثرة، وهذا ما شكل لنا سلوى، لأنّ تشيخوف الرجل الإنسان ما عاد بيننا، فسيرة حياته قصة قصيرة بهّارة في جمالها، غنية في مشاعرها، وهي وقيدة جمر في صبرها، وثقيلة جداً في عذاباتها، وبئر عميقة لأحزانها، فهو ما كان على وفاق مع أبيه صاحب المتجر، ولا مع إخوته، ولا مع ناشري قصصه، ولا مع أصدقائه من الكتّاب والفنانين، وهنا أستثني تولستوي (1828 – 1910) وربما غوركي (1868 – 1936) إلى حدّ ما، وزوجته الفنانة أولغا (1868 – 1959)، ولا مع مرض السل الذي غلبه لسبب بسيط هو أنه لم يقرأ قصصه.

تشيخوف أوقف حياته كلها من أجل الفن القصصي، حتى أن ذكر حياته الطبية كان ذكراً قليلاً علوقاً بأنه ساعد مرضاه وصبر عليهم، ولم يتضايق من مطارداتهم له في أوقات نومه، واستقبال ضيوفه، وكتابة قصصه، ومع أن الكثيرين عرفوا بمرضه، لكن نقاد أدبه (القصص والمسرحيات) تحاملوا عليه كثيراً فأوجعوا قلبه أكثر فأكثر، صحيح أنّ بعضهم اعتذر، فيما بعد، لكن ما نفع الأعذار بعد أن باتت جروحها ندوباً.

تشيخوف أيها المبدع الاستثنائي، في كل سنة أقنع نفسي بأنك تعيش بيننا، أنت معنا، لكننا لا نستطيع الحديث واللقاء، والسؤال، والقرب منك.. لأنك استثنائي!

Hasanhamid55@yahoo.com