ثقافةصحيفة البعث

“ارقص كأنك النون” والخروج عن المألوف في تصوير الحرب

أمينة عباس

بعد مجموعتها القصصيّة الأولى “الانحناء يساراً” التي صدرت في عام 2019 ومشاركاتها المتعدّدة في كتابة القصة ضمن مجموعات مشتركة، ولرغبتها في التجريب خاضت القاصّة سوزان الصعبي تجربة كتابة الرواية من خلال روايتها “ارقص كأنك النون” الحائزة على جائزة حنا مينة للرواية والصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2023، والتي تمّ الاحتفاء بها، مؤخراً، في المركز الثقافي العربي في المزة خلال ندوة أدارها الأستاذ سامر منصور، وشاركت فيها الكاتبة عبير القتال والناقدان الدكتور محمد موعد والدكتور ثائر عودة، تقول الصعبي في تصريحها لـ”البعث”: “أردّد دائماً أن ملعبي هو القصة القصيرة التي أميل إليها، لكن لي تجارب في كتابة السيناريو والمونودراما، ورغبة مني في التجريب الدائم خضتُ مجال كتابة الرواية التي قسمتها إلى فصول قصيرة لأنني لم أستطع الهروب من كوني أحبّ الاختصار، وأعترف بأنني أحببتُ هذه التجربة التي لم تكن سهلة بالنسبة إليّ، وما ساعدني في خوضها ما أمتلكه من رصيد كبير كقارئة نهمة للرواية في الأدب العالمي”.

وتعلن الصعبي في تصريحها عن أنها قبل أشهر كتبت رواية أخرى لأنها أحبّت عالم الرواية الواسع الذي قد لا يتوافر في عالم القصة القصيرة، وتضيف: “تتناول رواية ارقص كأنك النون الحرب على سورية والتي تحتاج إلى صفحات، وركّزتُ على تفاصيلها التي عاشها أناس عاديون عانوا التهجير من بيوتهم، تاركين وراءهم ذكرياتهم وأشياءهم، مع العودة إلى الزمن الجميل الذي كان قبل هذه الحرب البشعة لأدعو من خلالها إلى المحبة والحوار والسلام”.

وتوقفت الأستاذة عبير القتال في بداية حديثها عن الرواية عند موضوعة الحرب في الكتابة قائلة: “في زمن الحرب تصبح الكتابة فعلاً مقاوماً للموت والخراب، فيمتشق الكاتب قلمه ليكتب بمداد دمه نصاً يعلن عن وجوده في حرب مرعبة، وهذا ما فعلته سوزان الصعبي في مجموعتها القصصية الأولى “الانحناء يساراً”، ومن ثم في روايتها “ارقص كأنك النون” بعنوانها العبثي والمثير، حيث تدعو القارئ وشخصيات الرواية إلى الرقص في زمن الحرب للانتصار على الخراب والدمار، وكأن فعل الرقص الذي تأمرنا به ابتهال صوفي للصعود من القاع إلى النور”، وتستطرد: “أكثر ما لفت انتباهي في الرواية أن الكاتبة عبّرت عن الحرب بعيداً عن الدم وعما يَرد على شاشات التلفزة، فقدّمت نصاً مختلفاً عبر أنسنة الأشياء، وسرد ما حدث على لسان كتاب عاش الحرب التي طالت الجميع، وقد بقي يقاوم في مخيم اليرموك وأصابه ما أصاب البشر منها، طارحة الكاتبة على لسانه ولسان الشخصية الأساسية تساؤلات وجودية عبر مونولوجات ساحرة وحوارات اتّسمت بلغتها المكثفة وروح التفاؤل الذي خيّم عليها”.

وفسّر الأستاذ سامر منصور العلاقة القوية بين الكاتبة والأشياء عبر أنسنتها للكتاب بأنها دليل إنسانيتها ورهافة حسّها، معتمدة أسلوب الخطف خلفاً الذي جاء تلقائياً ويشي بروح طفولية ممزوجة بروح الأديبة المثقفة التي تتمتّع بها الصعبي، وقد حفل نصها بإسقاطات عفوية وانزياحات خاصة، بالإضافة إلى قدرتها على سرعة الدخول إلى الحدث الذي ابتعدت فيه عن الصراخ الإيديولوجي، معلنة عن التعلق بالمكان الذي منحته روحاً عبر حوارات جميلة ومقدّمة شائقة يعرف القارئ من خلالها أنه أمام ما هو خارج عن المألوف في تصوير واقع الحرب”.

وألمح الدكتور محمّد موعد إلى أن ما سيقوله يدخل في باب تلقّي النصّ، فنقده لا يكون في سرد حسناته والوقوف على هناته فحسب، بل في ربط متلقّي النصّ بحياته وشعوره وحسّه، فالجانب الشعوري في التّلقي هو الذي ينقلك أو لا ينقلك إلى رحب الآفاق، وهو أعلى أنواع الربط لأنه يُظهر البعد الجمالي والإنساني للفنّ، والفن إذ يخلو من هذين البعدين يغدو فنّاًً جامداً باهتاً لا قيمة له، يقول: “عشتُ تلك المشاعر وأنا أتلقى كلمات الرواية، فسرحتُ مع إيقاعها وشخوصها وأحداثها ومواقفها، وسعدتُ بأنس لغتها وسحرها وألقها، ونادراً ما يكون لي ذلك في هذا الزمان من أعمال يصفها أصحابها بأنها من الرواية أو القصة وهي لا صلة لها بتاتاً بها، فلا أحداثها ولا شخوصها ولا مواقفها ولا إيقاعها يشي بذلك، وحسبك منها اضطراب وفوضى وغموض، وهو أمر مشروع إن وظّف التوظيف القويم السديد، لكنه ليس كذلك حين يستحيل العمل الفني إلى طلاسم تنفّر المتلقي، لذلك اصطفت الكاتبة في روايتها ذات الموضوع الكئيب رموزاً يسيرة لطيفة تجانب التعقيد والغموض، وخير مثال حين رصدت لحظات الوداع الأخيرة للبيت: “احتضنت شمسَ القنديل، ووعدته بعودة قريبة وسهر محتوم، ولمست الستارة الزرقاء المنسدلة على نافذة، ثم لحقتْ بأخواتها اللواتي كنّ مثلها يودّعن البيت”.

وعلى الرغم من تأكيد الدكتور ثائر عودة أن الزمن الذي يغلف الحكايات هو زمن الحرب التي حلّت بسورية منذ عام ٢٠١١ وتناوب هذا الزمن بين ارتدادات إلى الوراء واسترجاع زمن الماضي الجميل قبل الحرب والعودة إلى زمن الحاضر المرير بآثاره الكارثية، لكنه يقول: “لن أسارع إلى تصنيفها ضمن روايات أدب الحرب مع أنها تحمل الكثير من سماته، وخاصة ما يتعلق بتأثير الأحداث والويلات التي عصفت بدمشق، مختارة الكاتبة زاوية مختلفة عن السائد في السرد، وهو ما ميّز الرواية عن غيرها ومنحها جرعة زائدة حين جعلت الكتاب بطلاً يروي لنا ما حلّ به في الحرب، وهو حقل دلالي (أنسنة الأشياء) اشتغل عليه معظم الكتّاب الأجانب والعرب، لكننا في هذه الرواية إزاء بطل يتجاوز مفهوم الأنسنة ليخبر عن حاله وعن علاقاته بجيرانه من الكتب والمقتحمين الأغراب الذين استباحوا حرمته وحرمة عائلته، متولياً مهمة السرد والإخبار لعدد غير قليل من الأحداث بطريقة عرفنا من خلالها ما حلّ بالدار بعد غياب أهلها، وهذا معادل فني منطقي، إذ لا بد من أحد يروي ما حلّ بالدار بعد غياب أهلها، حيث لم يكن بالإمكان أن تخترع الكاتبة شخصية أخرى لتروي ما يجري داخل البيت تكون مقنعة مثل اختيارها للكتاب، إلى جانب الشخصية الأولى الفتاة شمس المرسومة بعناية ومن دون مبالغة، فهي ليست بطلاً إشكالياً يعاني أزمات وعقداً مكبوتة، إنما مجرد فتاة عادية معلمة ومثقفة وكاتبة قصة لديها أحلام وردية، وقد تناوبت مع الكتاب على مهمّة السرد في معظم الفصول الخاصة بالعائلة والحيّ والأحداث والموقف منها”.

ولم يخفِ عودة استغرابه في حديثه عن فضاء الرواية ومكانها كيف أن الكاتبة التي وإن تحدثت عن حيها قبل الفاجعة وبعدها ورصدت الكثير من تفاصيل ذلك الحيّ، لكن المتلقي سيبقى يتساءل عن أي حيّ من أحياء دمشق تتحدث، لأن المكان لم يمتلك الخصوصية الكافية التي تلبي شغف القارئ أو تجعله قريباً أكثر منه، قائلاً: “بقي فضاء دمشق هو مسرح الأحداث، بعيداً عن خصوصية مخيم اليرموك الذي تقصده الكاتبة، وهذه العمومية في الحديث عن المكان أفقده بعض الحميمية، من دون استبعاد أنها فعلت ذلك عن قصد لتقول إن ما حدث قد طال الجميع”.

وعن مكوّنات البنية الأسلوبية التي حكمت الرواية وتنوّعت، يتوقف عودة مطولاً عند حواراتها وشخصياتها والسرد الذي غلب عليها والذي يتسم بالإخبار: “بقيت الكاتبة منهمكة أكثر بالإخبار ولم تبدِ اعتناء واسعاً بالوصف والوقفات الوصفية، وهذا لا يعدّ نقصاً حيث الرؤية التي حكمت عملها في كتابة رواية طبيعة موضوعها تفرض الإخبار عن الحرب والناس، ويُحسب لها في الوقت ذاته أنها لا تترك القارئ مجرد شاهد ومستمع، بل تجعله مشاركاً حقيقياً حين تكرر في معظم استهلالات الفصول اللازمة اللغوية “هل تعرف”.

تخلّل الندوة مشاركة فنية من قبل أمجد جريد، على آلة العود وسيرين موعد غناء.