دراساتصحيفة البعث

هاريس بين دعم الكيان والتعاطف مع غزة

قسم الدراسات

تواجه نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس بعد أيام قليلة من بدء حملتها الرئاسية، تحدياً سياسياً متمثلاً في تحديد موقفها من الحرب على غزة، فهي من جهة، تتمسّك بدعم الكيان الإسرائيلي وتتبع خطا بايدن، لكنها من جهة أخرى، تبدي تعاطفاً مع غزة، وخاصة فيما يتعلق بالإبادة الإسرائيلية ضد المدنيين، وظهر ذلك واضحاً في خطابها الذي أكدت فيه أنها لن تتجاهل هذه المأساة ولن تصمت.

جاء صعود هاريس السريع نحو القمة بعد أيام قليلة من انسحاب الرئيس الأمريكي بايدن من السباق الرئاسي، ما طرح عدة أسئلة حول موقفها بشأن الحرب على غزة، وهل السياسات التي سوف تتبناها ستختلف عن سياسات بايدن، أم إنها سوف تلتزم بالخط السياسي للحزب الديمقراطي الذي يرى أن للكيان الحق في الدفاع عن نفسه؟.

تبدي هاريس تعاطفاً مع الفلسطينيين، وتستخدم لهجة مختلفة في الحديث عن معاناتهم، وظهر ذلك جلياً في الخطاب الذي ألقته في مدينة “سالما” بولاية “ألاباما” في شهر آذار الماضي، حيث دعت إلى وقف إطلاق النار الفوري، ووصفت الوضع في غزة بأنه “كارثة إنسانية”.

وفي تصريح آخر لها أدلت به بعد لقائها نتنياهو قالت: “لا يمكن أن نتجاهل هذه المآسي”، “ولن نصمت”. كما أنها لم تحضر الخطاب الذي ألقاه نتنياهو أمام اجتماع مشترك للكونغرس، وتبنّت موقف إدارة بايدن المعارض لأي غزو “إسرائيلي” لمدينة رفح جنوبي قطاع غزة، وقالت: “لا يوجد مكان لهؤلاء الناس يذهبون إليه”. وأكدت: “إن على الحكومة الإسرائيلية زيادة تدفق المساعدات بشكل كبير، ولا يوجد هناك عذر”.

ولم تتردّد هاريس في إظهار التعاطف مع المتظاهرين من طلاب الجامعات الأمريكية المعارضين للحرب على غزة، الذين طالبوا بقطع العلاقات مع الكيان، وأبدت تفهمها الكامل لمشاعرهم.

وفي المقابل، فإن هاريس تتمتّع بعلاقات قديمة ومتينة مع اليهود الأمريكيين وجماعة الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة، وقد حصلت على دعم مجموعات يهودية كبيرة في حملتها للفوز بمنصب نائب الرئيس خلال انتخابات عام 2020، كما تربطها علاقات قوية مع رئيس الكيان إسحق هرتسوغ، وكانت شريكاً كاملاً لـ”بايدن” في سياساته في الشرق الأوسط، ولاسيما تجاه الحرب على غزة، إضافة إلى أن زوجها اليهودي دوغ أيمهوف قام بسلسلة من اللقاءات العامة لإدانة تصاعد معاداة “السامية” منذ السابع من تشرين الأول الماضي.

وفي هذا السياق أيضاً، أكدت هاريس دعمها القويّ للكيان، وأيدت ما يُسمّى “حق تل أبيب في الدفاع عن نفسها”، وأن التهديد الذي تشكله المقاومة على الكيان يجب القضاء عليه. كما أنها أدانت فعل المحتجين خارج الكونغرس في أثناء زيارة نتنياهو الأخيرة إلى واشنطن، وأصدرت بياناً ندّدت بالأفراد الذين يؤيدون المقاومة التي تسعى في رأيها إلى تدمير “دولة إسرائيل وقتل اليهود”. وكانت بعد لقائها مع نتنياهو التقت بأسر محتجزين إسرائيليين لدى المقاومة في فلسطين وأعلنت أنها تقف معهم.

في الواقع، إن هاريس تواجه مشكلة انتخابية كبيرة، تتمثل بوجود شريحة واسعة من التقدميين الديمقراطيين المعارضين لـ”بايدن” في انحيازه الكامل للكيان ومواصلة إرساله شحنات الأسلحة إلى هناك، وامتناعه عن ممارسة الضغوط على قادة الكيان لوقف الحرب. ومع اتساع هذه المعارضة قد ترجح كفة منافسها على كرسي الرئاسة دونالد ترامب، ولهذا فإن أصوات هؤلاء الناخبين قد تشكل خطراً جسيماً على حظوظ هاريس في الفوز بالانتخابات.

إن هاريس أكثر إدراكاً لأهمية موضوع غزة لقواعد الحزب الديمقراطي وخاصة الشباب منه، ولاسيما أن استطلاعات رأي حديثة أظهرت أن نحو ستة من أصل عشرة ديمقراطيين يعارضون طريقة بايدن في “التعامل مع الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين”، لذلك تستخدم هاريس لهجة مختلفة في الحديث عن معاناة الفلسطينيين، وبدت أكثر تعاطفاً مع الجانب الإنساني لأزمتهم.

ومن هذا المنطلق، تسعى هاريس لكسب ثقة وتأييد العرب والمسلمين الأمريكيين من أعضاء الحزب الديمقراطي، لما لهم من دور مؤثر في التصويت، وقد رفض هؤلاء ترشيح بايدن حتى إن بعضهم رفض لقاء مسؤولين في حملة الرئيس قبل أشهر بسبب غزة. ويبدو أن سياسة هاريس هذه قد أثمرت بعض الشيء، إذ إن مئات من قادة السياسة الخارجية من الديمقراطيين السابقين بينهم عرب ومسلمون قد أيدوا مؤخراً هاريس في مساعيها إلى البيت الأبيض.

باختصار، إن هاريس تحاول استدراك الموقف الأمريكي من الحرب على غزة، ومحاولة إنقاذ أصوات الناخبين الأمريكيين ذوي الأصول العربية، ولكن هذا لا يعني أن واشنطن قد تتخلّى عن دعم حليفتها الإستراتيجية “إسرائيل”، فهي تعمل على كسب الجانبين، سواء المؤيد للكيان أو المتعاطف مع غزة، ولاسيما أن هذا الأخير أخذ يتصاعد بشكل كبير وارتفع صوته عالياً رافضاً حرب الإبادة في غزة، وهذا ما تحرص هاريس على كسبه، ولا تستطيع تجاهله، بالميل الكامل للطرف الإسرائيلي.

ختاماً، لا ينبغي أن نذهب بعيداً في تقدير تعاطف هاريس مع غزة، ذلك أن جوهر تصريحاتها ومواقفها لا يبتعد كثيراً عن مواقف بايدن وأسلافه حول الدعم القويّ والالتزام الثابت تجاه الكيان، وإنما يندرج موقفها في تقديم رؤية خاصة بها لإنقاذ حملتها الانتخابية من الخطر وسط ردّات فعل معارضة للانحياز الأمريكي الكامل للكيان، وبمجرد أن تفوز في الانتخابات وتتولى المنصب، فليس من المستبعد أن تكشف عن وجهها القبيح، حالها في ذلك حال كلّ الرؤساء الأمريكيين في انحيازهم للكيان ودعمهم لسياسة القتل والإبادة الجماعية ضد المدنيين في فلسطين المحتلة.