تحقيقاتصحيفة البعث

إجراءات إيقاف هجرة الكفاءات وعدم عودة الموفدين كالنفخ في قربة مقطوعة!

غسان فطوم

دائماً ما نردّد في أحاديثنا أن سورية دولة ولّادة للكفاءات التي يعوّل عليها في النهوض بواقع البلد والارتقاء به نحو الأفضل في مختلف المجالات، فالسوريون أينما حلّوا في أصقاع العالم يبدعون، ويقدّمون أنموذجاً يحتذى ونفتخر به، فسيرتهم الحسنة جاءت نتيجة تفوقهم وتميّزهم بعملهم، وباتت حديث كلّ العالم، الذي يحاول استقطابهم والتمسّك بهم، مهما ارتفعت التكاليف.

فرح وحزن

ولا شكّ أننا نفرح من القلب ونفتخر كسوريين بإنجاب العلماء والمفكرين والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات والصناعيين والحرفيين المهرة وغيرهم من المبدعين، عندما نقرأ ونسمع ونشاهد ما يُحكى عنهم في بلاد الغربة، لكن في الوقت ذاته نحزن ونتألم كثيراً لدرجة الغصّة والحسرة على خسارتهم، فهم كنز لا يقدّر بثمن!

سؤال يفرض نفسه هنا: إلى متى التعب علينا والغنيمة لغيرنا على “البارد المستريح”، ولعلّ السؤال الأهم: لماذا يحزم هؤلاء حقائبهم ويرحلون في ليلة “ما فيها ضوء قمر”؟!

للأسف الإجابة عن هذا السؤال الساخن ما زالت مجرد “حكي” يطلق بحماسة زائدة على المنابر، وفي كلّ المناسبات، لكن دون أن نجد الإجراءات الكافية على الأرض التي تحفّز كفاءاتنا على العودة، وتمنع من تبقى منهم من الهجرة!

إجراءات فاشلة!

على مدار العقود الماضية نجحت الجامعات السورية الحكومية والخاصة والمعاهد التقانية والمعاهد العليا في صناعة العقول، بما وفرته لهم من تعليمٍ عالٍ ومتوسط شبه مجانيّ، غير أن الإجراءات الحكومية فشلت في وضع الخطط المناسبة باستثمارهم بعد تخرجهم في الجامعات، ما أجبرهم على طرق باب الهجرة، ولعلّ الإنجاز الوحيد الذي حققته هو حشر “القلة” في وظائف قتلت عندهم الإبداع في العمل، عندما تحوّلوا إلى آلات تنجز عملها في ساعات محدّدة وتعود مساءً، وتعاد الكرّة في اليوم التالي في دورة عمل روتينية قاتلة، لا محفزّات مادية ولا معنوية تجعلهم يتمسّكون بالعمل، والأخطر هو بقاء مئات الآلاف من دون عمل مناسب!

هذا الوضع الخانق الذي عانت ولا تزال تعاني منه الكفاءات جعلها تلتمّس لنفسها العذر بالسعي نحو الهجرة، فهم يرون كيف يُسند العمل في مراكز مهمة لغير المتخصّصين بها، متسائلين: لماذا درسنا وتخصّصنا، هل يريدون لنا أن نعلّق شهاداتنا العليا على الحائط ونتحسّر عليها؟!

سورية الأكثر معاناة

في حديث الأرقام  غير المعلنة بشكل دقيق من الجهات الرسمية، نجد أننا تكبّدنا خسائر فادحة بسبب هجرة الكفاءات والخبرات، من أطباء ومهندسين وعمال وحرفيين، وأصحاب تخصّصات علمية أخرى، وليس ذلك بغريب بعد أن أصبحت سورية من أكثر الدول العربية معاناةً من هجرة العقول، وهو أمر محزن بلا شك في ظلّ غياب الإجراءات والتدابير المناسبة لوقف نزيف الهجرة!

النفخ في قربة مقطوعة!

في حديث مع أساتذة جامعيين وباحثين اقتصاديين أعربوا عن أسفهم في استمرار نزيف هجرة الكفاءات السورية، وبرأيهم إن ظلّ الوضع على ما هو عليه فإننا سنخسر حاضرنا ومستقبلنا ولن نجد أية كفاءات وخبرات سورية “دفعنا دم قلبنا عليها”، ونحن بأمسّ الحاجة لها اليوم، متسائلين: إلى متى تبقى الإجراءات الحكومية عاجزة كمن ينفخ في قربة مقطوعة؟!.

الموفدون أيضاً

ولا تتوقف خسارتنا للكفاءات والخبرات على الذين هاجروا من البلد، وإنما امتدت إلى رفض المعيدين الموفدين للدراسة في الخارج العودة إلى الوطن، فإذا أخذنا بالاعتبار  إغراءات بلدان الإيفاد كسبب مباشر، لكن هناك ثمة أسباب أخرى تدفع الموفدين لرفض العودة، معلّلين ذلك بالإجراءات غير العادلة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي في التعامل مع الموفدين حينما يعودون، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

– الرواتب الهزيلة التي تعطيها الوزارة لأعضاء الهيئة التدريسية والتي لا تكفي لتأمين متطلبات معيشتهم وإنجاز عملهم العلمي.

– الجمود العلمي الذي يصيب الكثير من أعضاء الهيئة التدريسية وعدم قدرتهم على التطور علمياً ومهنياً نظراً لعدم تأمين وسائل البحث، إضافة إلى التعامل غير المنطقي مع المعيد العائد من الإيفاد بعد العودة، حيث تستمر عملية تعديل الشهادة والتعيين في بعض الأحيان أكثر من سنتين، ولا تدخل هذه المدة ضمن الخدمة الفعلية لما بعد الإيفاد!.

لا شيء يشجع

وذكر الأساتذة أن أكثر من 3000 موفداً لم يعودوا إلى البلد منذ عام 2010، ولغاية اليوم، فنحن هنا أمام مشكلة تستدعي الحل السريع دون تأجيل يعقّد الأمور!

وبحسب وزارة التعليم العالي، هناك 10% أو أقل من الذين يعودون من الإيفاد، ومن هؤلاء من لا يتردّد بالعودة إلى بلاد الاغتراب مرة أخرى بعد تسوية وضعه بسبب غياب المحفزات والبيئة اللازمة للعمل في تخصّصه الذي أوفد من أجله وكلّف الدولة آلاف الدولارات!

وقالها عدد من الموفدين عبر منبر “دكاترة الجامعات السورية”: بصراحة لا شيء يشجّع على العودة، بسبب وجود إجراءات وزارية غير عادلة، وهذا ما يجعل الموفد يترك أهله ويتحمّل قسوة عدم رؤيتهم، لأن قسوة ما يحصل من تعامل معه عند العودة أشدّ من قسوة الغربة!، مطالبين “التعليم العالي” وغيرها من الوزارات المعنية بإعادة النظر في كلّ قوانينها وإنصاف العائدين من الإيفاد، لأن الأمور الإجرائية إن بقيت على حالها، فلن تستطيع تلك الجهات أن تعيد أي موفد إلى الوطن، ولن نتمكّن من الوصول إلى المستويات المطلوبة من النمو الاقتصادي والعلمي والتعليمي، وفي كلّ مجالات التنمية، لأن المهاجرين من أصحاب الجودة والنوعية في تخصّصاتهم وليسوا مجرد عدد ينقص أو يزيد.

لجنة الشباب

في مجلس الشعب، هناك لجنة للشباب، لكنها وعلى مدار الأدوار التشريعية الماضية اكتفى أعضاؤها بالمداخلات الانفعالية التي فشلت في الضغط على الحكومة باتخاذ الإجراءات ووضع الخطط المناسبة لتشغيل الشباب، أو تحفيز المهاجرين للعودة إلى أرض الوطن!.

اليوم من غير المقبول استمرار نزيف الكوادر البشرية، فكلّ يوم يمرّ دون اتخاذ إجراء ووضع خطط مناسبة تزداد الخسائر ويتضاعف الثمن، فإلى متى الوقوف مكتوفي الأيدي؟ علماً أن هناك مديرية خاصة لإدارة الموارد البشرية تابعة لرئاسة مجلس الوزراء، من مهامها استثمار مواردنا بالمكان المناسب.

سؤال نضعه برسم السلطتين التشريعية والتنفيذية من أجل وضع ملف الشباب المهاجر، والذي في أرض الوطن من ضمن الأولويات، فهو أهم بكثير من ملفات أخرى أخذت من الموارد الكثير، ولم تنتج إلا القليل!

بيئات طاردة 

بالمختصر، المرحلة القادمة التي نعوّل عليها كثيراً تحتاج لإجراءات فاعلة وسياسات حقيقية لتشغيل الشباب وتأمين الملاذ الآمن والمحفز للكفاءات لنحافظ على البقية الباقية منها، وتشجيع من هاجر على العودة.

نحتاج لبنية تحتية داعمة تُقدّر قيمة الكفاءات والخبرات، والعمل بمبدأ تكافؤ الفرص، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فبقدر ما نعطيها تعطينا، وغير ذلك ستبقى مؤسساتنا على اختلاف مستوياتها بيئات طاردة، في وقت نحتاج فيه لكلّ الجهود للسير في عملية التنمية وفق مسارات صحيحة بعيداً عن المطبات المصطنعة.