ثقافةصحيفة البعث

جمالية التّلقي من أجل تأويل جديد للنّص الأدبي

نجوى صليبه

من قلب جامعة “كونستانس” في ألمانيا، أطلق “هانس روبيرت ياوس” مشروعه النّظري والمنهجي تحت عنوان “جمالية التّلقي من أجل تأويل جديد للنّص الأدبي”، وهو بحسب مترجمه رشيد بنحدو جدير بالإسهام في حركة تطوير ممارستنا للنّقد، يوضّح: “إنّ خطاباته المختلفة الآفاق ستظلّ قاصرةً عن إدراك الأدب في خصوصيته ما لم تأخذ محفل التّلقي بالحسبان.. كيف لا والقارئ هو من يخاطبه الأدب؟ فالنّصوص لا تكتب لتوضع على الرّفوف، إنّها سيرورات دلالية كامنة لا تتحقق وتتفعل إلّا بالقراءة وفي القراءة، فوجود الأدب يتطلّب القارئ بقدر ما يتطلّب الكاتب، لذلك من المنطقي الاهتمام به”.

لكن ما هو الجديد الذي تقترحه جمالية التّلقي على النّقد العربي؟ يجيب بنحدو: “الإبدال هو الاهتمام بأثر الأدب في القارئ، لا بالأدب في حدّ ذاته أو في حدّ مرجعيته أو تاريخيته، فالسّؤال الذي يتعيّن على النّاقد طرحه من الآن هو: ماذا يحدث في القارئ حين يقرأ؟ أي: ما هو وقع النّصّ فيه؟ وفي إجابته على هذا السّؤال الجديد إجابة على سؤال النّقد الأزلي: هل النّصّ الأدبي المنقود جيّد أم رديء؟”.

وينطلق “ياوس” في طرحه الجديد من فرضية أنّ النّصّ لا ينبثق من فراغ ولا يؤول إلى فراغ، وأنّه كما لكلّ كاتب أفقه الفكري والجمالي الذي يتكوّن من تمرّسه الجمالي بالجنس الأدبي الذي يبدع فيه، كذلك كلّ قارئ ولاسيّما إن كان ناقداً- يمتلك أفقاً فكريّاًً وجمالياً يشرط تلقّيه للنّصّ الأدبي وتعبئته بالمعنى وتأويله لبنيته الشّكلية، وهذا ما أطلق عليه مصطلح “أفق التّوقّع” ويتألف من خبرته المسبقة بالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النّصّ المقروء، يقول: “ينبغي، تجديداً للتّأريخ الأدبي إلغاء الأحكام المسبقة التي تتميز بها النّزعة الموضوعية التّأريخية، وتأسيس جمالية الإنتاج والتّصوير التّقليدية على جمالية الأثر المنتج والتّلقي، فتاريخية الأدب لا تنهض على علاقة التّماسك القائمة بعيداً بين ظواهر أدبية، إنّما على تمرّس القارئ أوّلاًً بالأعمال الأدبية، وتعدّ هذه العلاقة الحوارية أيضاً المسلمة الأولى بالنّسبة إلى التّاريخ الأدبي، لأنّ على مؤرّخ الأدب نفسه أن يتحوّل أوّلاًً وباستمرار إلى قارئ قبل أن يتمكّن من فهم عمل وتحديده تاريخياً، أي أنّه ملزم بتأسيس حكمه الخاصّ على الوعي بوضعه ضمن السّلسلة التّاريخية للقرّاء المتعاقبين”.

ويركّز الكاتب في كلّ مرّة على العلاقة بين النّصّ والمنتوج الأدبي، يقول: “إنّ تاريخ الأدب سيرورة تلقّ وإنتاج جماليين تتمّ في تفعيل النّصوص الأدبية من لدن القارئ الذي يقرأ والنّاقد الذي يتأمّل والكاتب نفسه مدفوعاً إلى أن ينتج بدوره، وهذه الحصيلة المتزايدة باستمرار “للظّواهر الأدبية” وبالشّكل الذي تدوّنها تواريخ الأدب التّقليدي لا تعدو كونها فضالة لتلك السّيرورة أي مجرّد ماض تمّ تسجيله وترتيبه وتحفيظه”، مبيناً أنّه لا يمكن فهم تاريخ الأدب ووصفه في خصوصيته إلّا إذا أمكن نقل “أفق التّوقع إلى حيّز الملاحظة الموضوعية، يقول: “إنّ إعادة تشكيل أفق توقّع الجمهور الأوّل كفيلة بتخليص التّجربة الأدبية للقارئ من النّزعة النّفسية التي تهدّده، ونقصد بأفق التّوقع نسق الإحالات القابل للتّحديد الموضوعي الذي يُنتج وبالنّسبة إلى أي عمل في اللحظة التّاريخية التي ظهر فيها، عن ثلاثة عوامل أساسية: تمرّس الجمهور السّابق بالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل، ثمّ أشكال وموضوعات أعمال ماضية تفترض معرفتها في العمل، وأخيراً التّعارض بين اللغة الشّعرية واللغة العملية بين العالم الخيالي والعالم اليومي”.

وينتقل بعدها الكاتب إلى الحديث عن إعادة تشكيل هذا أفق التّوقّع، فيقول إنّ إمكانية إعادة تشكيله بشكل موضوعي تتيحها نصوص ذات أصالة تاريخية أقلّ جلاء من أصالة من النّصوص السّابقة، ويبرر ذلك بقول إن حالة القارئ تجاه عمل ما، يمكن تشكيلها من جديد، انطلاقاً من ثلاثة عناصر مفترضة في كلّ نصّ، وهي المعايير الجمالية العلنية أي شعرية جنسه الخاصّة والعلائق الضّمنية التي تربط هذا النّص بنصوص أخرى، وأخيراً التّعارض بين الخيال والواقع، بين الوظيفة الشّعرية للغة ووظيفتها العملية، وهو التّعارض الذي يسمح للقارئ المتأمل في قراءاته بمزاولة مقارنات في أثناء القراءة، ما يسعفه على إدراك العمل الجديد تبعاً للأفق المحدود لتوقّعه الأدبي، ويضيف: “إنّ التّمكّن هكذا من إعادة تشكيل أفق توقّع عمل ما، يعني أيضاً التّمكّن من تعريف هذا العمل بما هو عمل فنّي، تبعاً لطبيعة تأثيره في جمهور معيّن ولقوّته”.

“الإنتاج والتلقي أسطورة الأخوين العدوّين” عنوان الفصل الثّاني من الكتاب، ويستهله “ياوس” بقول إنّه لم يحدث أبداً في تاريخ التّجربة الجمالية أن ظهر مفهوما “الإنتاج” و”التلقي” بمظهر الأخوين العدوين، ويبيّن: “لكن ما يدعو للدّهشة هو إثبات أنهما في لحظة معينة كانا كذلك، وبمناسبة الجدل الذي دار في السّتينيات حول نقد الأيديولوجيات، احتدم النّقاش حول مسألة تنازع التّأويلات، وكان الغرض آنذاك معرفة ما إذا كان الإنتاج بصفته عاملاً حاسماً في كلّ ممارسة اجتماعية، عاملاً أيضاً يحدّد مجموع النّشاط الجمالي أو كان التّلقي على الرغم من تبعيته للإنتاج، لا يمثّل شرطاً أوّلياًً يتوقّف عليه فهم النّصّ الأدبي”.

وتحت عنوان “جمالية التّلقي والتّواصل الأدبي”، يتحدّث الكاتب عن هذه العلاقة الجدلية أيضاً فيقول: “منذ عام 1966 لم تتوقّف جمالية التّلقّي عن التّطوّر لتتحول إلى نظرية للتّواصل الأدبي، ويحصر موضوع أبحاثها في التّأريخ الأدبي باعتباره إجراء يوظّف ثلاثة عناصر فاعلة هي المؤلّف والعمل الأدبي والجمهور، أي عملية جدلية تتمّ فيها دائماً الحركة بين الإنتاج والتّلقي بواسطة التّواصل الأدبي، ويعني مفهوم التّلقي هنا معنى مزدوجاً يشمل الاستقبال والتّبادل معاً.. فالتّلقي هنا عملية ذات وجهين أحدهما الأثر الذي ينتجه العمل في القارئ والآخر كيفية استقبال القارئ لهذا العمل، فباستطاعة الجمهور أن يستجيب للعمل الأدبي بطرق مختلفة، حيث يمكنه الاكتفاء باستهلاكه أو نقده أو الإعجاب به أو رفضه أو الالتذاذ بشكله أو تأويله مضمونه أو تكرار تفسير له مسلّم به أو محاولة تفسير جديد له، كما يمكنه أن يستجيب للعمل بأن ينتج بنفسه عملاً جديداً، هكذا إذاً تستنفد السّيرورة التّواصلية للتّأريخ الأدبي”، إلى قوله: “إنّ المصادرة المنهجية التي تريد جمالية التّلقي إقرارها في كلّ تأويل ذي طراز علمي ترتكز على التّمييز بين أفق الأثر المتضمن في العمل الفنّي وأفق تلقّيه الرّاهن، ذلك أنّ من الواجب القيام بهذا التّمييز إذا كنّا نريد فهم شبكة البنيات التي تشترط أثر هذا العمل والمعايير الجمالية التي اعتمدها مؤولوه في مراحل مختلفة من تاريخ الأدب”.

إنّ جمالية التّلقي بمعارضتها لهذين المنهجين اللذين يختزلان التّأريخ الأدبي إلى علاقات سببية أحادية الجانب، تتشبث -بحسب الكاتب- بتصوّر جدليّ، فهي ترى أن تاريخ تأويلات عمل فنّي ما هو تبادل أو تجارب بتعبير آخر، تحاور وترابط بين مجموعة من الأسئلة والأجوبة، وربّما الآمال في كتابة تاريخ أدبي جديد من أجل إعادة بناء قضية التّواصل الأدبي ممّا سمّاه رواسب الأعمال والتّرابطات التّاريخية والتّأويلات، وهذا يقتضي كما يقول “اللجوء إلى تاريخ ونظرية التّجربة الأدبية، ويبدو لي هذا ضرورياً لأنّه يمثّل “الجسر التّأويلي” الذي يسعفنا على بلوغ أحقاب بعيدة في الزّمان وثقافات غريبة على التّقليد الأوروبي”.