ليلى نصير في الذكرى الأولى لطيران روح ألوانها
تمام بركات
عام ٢٠١٥, تعرفت عليها.
زرتها والصديق الشاعر منذر مصري، وكان من القلة، إن لم يكن وحده، من يواظب على زيارتها في بيتها الواقع في أحد أحياء اللاذقية.
حينها كانت ليلى تزهو، وتتعامل معنا بحس أنثوي هائل، كانت تتصرف وكأنها أجمل امرأة في العالم، وعلى جدران بيتها الواسع، انتصبت أعمالها الفنية، لوحات لم تكتمل، ولوحات يبدو أنها منهكة ومنتعشة في آن من الكثافة اللونية، التي شكلتها ليلى بضربات فرشات قلقة، وهناك أيضاً على طاولة يراها الجميع، وقفت منحوتة لها، تكاد تنطق، ويبدو أنها من عاشق، لشدة الاعتناء بالتفاصيل وتفاصيل التفاصيل أيضاً.
شربنا شاي في فناجين تحمل رسم روميو وجولييت، وطلبت من منذر بأنوثة باذخة، أن يقطع الكيك، المحشو بالزبيب، ومع كل رشفة شاي كانت ليلى ترش سحرها في المكان.
الخوف الذي يرخيه العمر بتقدمه، خصوصاً عند امرأة عشقت الحياة وعشقتها، تراجع للخلف أمام واجب أن تكون امرأة قوية في حضرة رجلين، والحديث الذي كانت توجه دفته بلطف، اخضرت الفواصل والسكتات فيه، وبين حروفه ومفرداته، تمددت زهرة عباد شمس ندية.
عن تلك الذكرى
لم يكن إلا لقاء رتبته الصدفة في بيتها المتهادي بين بيوت اللاذقية على وقع أنغام لحن معتدل المزاج وطقس ساحلي رائق، جمعني بالفنانة التشكيلية السورية الأصيلة، والشاعر السوري منذر مصري الذي أراد لي أن ألتقي بواحدة من أهم وألطف الفنانات التشكيليات السوريات، ليلى نصير، السيدة التي تمور الحياة حولها كخيل فتي حرن وهي تحكي عن ماض ليس بالبعيد لا عن القلب ولا عن الذاكرة.. ماض حقيقي واقعي موشّى بالخيال الذي طبع ليلى بطباع الشعراء في عالم التشكيل اللوني والنحت، ولسوف يقرأ من يطالع لوحاتها نفحات شعرية ترسم حروفها الألوان وضربات الفرشاة الصاخبة حيناً، والهادئة حيناً آخر، فهذه الفرشاة ليست أداة “نصير” في تعبيرها عمّا يمور في جوانياتها من عوالم وشخوص وتواريخ، بقدر ما هي امتداد طبيعي لروحها، تلك الروح البرية العصية على قوالب الحياة الجاهزة في مجتمع ذكوري، تلك القوالب التي رسمت حياة النساء لدهور خلت وما زالت ترسم حدودها.
في ستينيات القرن الماضي، لحقت ابنة البحر صوت قلبها وسافرت إلى مصر لتدرس الفن هناك، غادرت مقعدها البحري في إحدى مقاهي اللاذقية، حيث ربى طيف “ربة أوغاريت” رمز الخصوبة الدائمة، خيالاتها وهي ترنو إلى البحر، فيما على القماش الواقف بين يديها، تتشكل حيوات وتنهض شخوص من الألوان، شخوص تحكي حكاية وتنشد شعراً وتغني.. بين اللوحات التي مازالت قيد السحر، والتماثيل المنجزة بكمال مرمرها وباذخ بازلتها، جلست “نصير” كشجرة ليمون تحكي بوجع عن بلاد ودّعت الدّعة التي تربّت بين أيامها، لتنظر بوحشة إلى المرآة التي تخبرها أنها الفنانة الأرقى حسّاً، فتنزّ الحسرات من البلور بصوت يدّعي الحيادية إلا أن اللوعة المحبوسة في القلب من الصعب إخفاؤها.. تحكي “نصير” عن أطفال صغار شردتهم الحرب، فصار بيتها بيتهم، وطعامها طعامهم، وفرحتها أنهم بخير بعد أن خبروا قسوة الحياة التي كسرت دواخلهم مرة واحدة وإلى الأبد.
ما ذنب الأطفال بكل ذلك؟ هؤلاء هم من دفعوا الثمن الأبهظ، تقول “ليلى” وفي صوتها خيط حزن غامق، يشبه اللون الأخضر الحاضر في لوحاتها كأفق أحياناً تنشقّ عنه فضاءات لونية فرحة.
تؤلمها الألوان التي خذلتها بعد أن أصابها تحسس منها يؤرق أنفاسها، تقول عن إحدى لوحاتها غير المكتملة: “انتظر المواد التي أوصيت عليها لأكمل تلك المشاريع، فجسدي صار يصاب بحساسية جرّاء تعاملي مع الألوان الزيتية”، إلا أن الريبة والتوجس اللذين يفيضان من كلامها، يخبران أن المانع سبب آخر، إنه الخوف الذي تسرب إلى دواخلها، خوف لم تعرف مثله قبل.. ينتظر القماش المشدود الوجه، أن تمرر فرشاتها اللينة المعشر على عضلاته وأمصاله المنهكة، علّ الحياة تنتفض بين تلك الخيوط التي تباعدت قليلاً فيما بينها.
يؤلمها أن الحياة بدأت بمشاكستها، الأحبة بعيدون والغرباء جاؤوا من كل أصقاع الأرض ليطعنوا خاصرتها أيضاً، تقول نصير، وهي تصب الشاي:تفضلوا..
على يميني جلس تمثال امرأة مرمرية، جيدها الطويل يرفع رأسها وهي تنظر إلى الخلود، كمن ينظر إلى العدم، العيون المتوهجة تبدو أيضاً منهكة، والخدود اليانعة، أجلت عنها السنون كسوتها الحمراء، وأبدلها الحزن على الحال التي صارت إليه بلادها، بصفرة شاحبة، إلا أن الرغبة الأكيدة في الخلود عصية على التفكير بالبلاء.
بعد إطالة النظر إليه يكشف تمثال الوجه عن هوية صاحبته، إنها نفسها الصبية الصهباء التي تقف في صورة معلقة على الحائط، أمام مجموعة من اللوحات، وحول الصبية تحلق الصحفيون والفنانون التشكيليون وزوار المعرض الذي أقامته نصير في مصر، إنه مشروع تخرجها في كلية الفنون في مصر، تخرجها الذي جاء جريئاً وفذاً بثيمته الذاهبة صوب عوالم المعوقين عقلياً، وأداة تشكيله الغريبة: سكين.
تظهر تأملات “نصير” للجسد عميقة في بحثها عن ملامح الحياة الأكثر طاقة فيه، كون الجسد في الفن تحديداً يبقى الحامل الأكثر قدرة على أن يكون الرديف للمعاني اللاتقليدية.. بهذا المعنى تبصر”ليلى” المساحة التي يتدفق منها الشكل المنحوت، فالشكل الذي تضعه (كموتيف) يحرّض الآخر على الغوص عميقاً في الجمال المخفي والنادر، وغالباً ما تغدق ليلى على منحوتاتها شال تلقائية الروح التي تسكنها، والتي تستعين عادة بالجمال البكر كي تنمو وتستمر.
الحديث عن تاريخ ليلى نصير الفني وعلاقتها مع الألوان وأدوات النحت حديث يطول، رغم أن المعلومات الخاصة متوفرة وبكثرة على الشبكة الالكترونية لمن يود، ولكني وجدت نفسي ميالاً للحديث عنها كامرأة وإنسانة ذهبت نحو الحياة بكل ما أوتيت من قوة، باذلة في سبيل حبها لشغفها كل ما تطمح إليه النساء، استقراراً وأسرة وأولاداً وأحفاداً، هذا كله تركته “ليلى نصير” المرأة التي خاطت ملابسها بنفسها وعاشت في مرسم من 12 م مما اضطرها لافتراش الأرض من ضيق المكان، كما ورد في الكتاب الذي حمل اسمها، وجاءت بين صفحاته أيضاً مجموعة صور لفتاة سورية جميلة، عشقت اللون وعشقها، داعب روحها وخيالها، فأنجبت أولاداً غافين على القماش، عنهم تقول ليلى إنهم أروع ما حدث لها يوماً!.
ليلى نصير.. فنانة تشكيلية سورية حازت على جائزة الدولة التقديرية للآداب والفنون في نسختها الثالثة، وذلك تكريماً لعطائها الفني الواسع، باعتبارها أحد رواد الفن التشكيلي السوري، وتقديراً لمنجزها الإبداعي الذي تمخضت عنه مسيرة امتدت لخمسة عقود، اختبرت خلالها شتى الأساليب والتيارات الفنية، وصولاً إلى مرحلة من النضج الفني، وهو ما أفضى إلى عشرات الأعمال الفنية ذات الخصوصية المتفردة، والقيمة الفكرية والإبداعية العالية.