الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

ما يؤلم حقاً..!

حسن حميد 

حقاً.. لا أستطيع أن أواري حزني مهما حاولت، وأنا أرى حال الأجناس الأدبية وهي تتدافع بقسوة أحياناً، أو وهي تتنافس بحماسة شديدة للتقدم، أو وهي تؤذي بعضها بعضاً بالكلام الثقيل أو قلة التأييد، مع أن معظم الأجناس الأدبية تعاني قلة الحضور والقبول والانتشار، وأنّ أسباباً كثيرة تعيق توهجها، وتحول دون بيان ما فيها من المعاني والمباني والجماليات، مثلما تحول دون بيان الأدوار النبيلة التي يلعبها الأدب عامة، والإبداع خاصة.

من أولويات الصور البادية والمعبرة عن حال الأجناس الأدبية (الشعر، والقصة القصيرة، والمسرحية، والرواية، والسيرة..) هي صورة الرواية التي تتقدم الأجناس الأدبية الأخرى، ليس تقدماً هيناً أو بسيطاً، إنما هو التقدم الذي تليق به صفة الذهول، لأنّ أشواط التقدم التي عرفتها الرواية خلال العقود الأربعة الأخيرة من حاضرنا، تكاد تشمل المشاهد الإبداعية في البلاد العربية كلها، وربما تشمل المشاهد العالمية أيضاً.

الرواية ذات قبول طيب في الحوار الثقافي الدائر في المنابر، ومواقع التواصل الاجتماعي، حتى ليشعر المثقف والمبدع معاً، أنّ كل الأسئلة موجهة نحو فن الرواية، وأنّ الحديث الأدبي هو حديث عن الرواية، والرواية مطلوبة ومحبذة لدى دور النشر، حتى لتكاد بعض دور النشر تصدّ عن طباعة الأجناس الأدبية الأخرى مثل الشعر، والقصة، والمسرحية، وباتت الرواية، في السنوات الأخيرة أيضاً، قريبة من أقلام النقاد، فهم يتحدثون عنها تنظيراً وتطبيقا وبكثرة، متناسين الحديث عن الشعر والقصة والمسرحية، أو أنهم خففوا من حماستهم تجاهها، والجوائز الأدبية، هي الأخرى، انصرفت، وعلى نحو جهير، إلى الرواية، تأييداً واستقبالاً، بوصف الجوائز حالاً راشدة وموجهة للقراءة من جهة، وحالاً للقياس والمعايرة بين تقنيات الرواية والمعاني التي تدور حولها من جهة أخرى، حتى إنّ انصرافاً ثقافياً مهماً راح يرافق الجوائز الأدبية في جميع مراحلها منذ الإعلان عنها وحتى وقت إقامة مهرجاناتها، وكل هذا أوجد حضوراً كبيراً طاغياً لفن الرواية، مثلما أوجد اهتماماً كبيراً من أهل المواهب ليكونوا في قادم الأيام كتّاباً للرواية، وكل هذا أيضاً أوجد حالاً من السكونية الثقيلة التي لفت حال الشعر والقصة القصيرة والمسرحية، وهي حال تجاهل أو لامبالاة.

ما يحزنني حقاً، ليس تراجع الشعر عن الحضور في حياتنا الثقافية، لأنّ الشعر تناهبته تيارات وتقنيات وآراء نقدية كثيرةخلطت أوراقه، وهذه كان لها أثرها في تعطيل تقدّم الشعر أو التقليل من اندفاعاته؛ حزني الثقيل، يتجلّى في انطفاء وهج فن القصة القصيرة، وعدم القبول عليه في الكتابة، والنشر، والنقد، والجوائز، وأنا الذي ظننت بأنّ فن القصة القصيرة هو مستقبل الأدب العربي في الإبداع بعد النفرة الهائلة التي عرفها هذا الفن في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين المنصرم، حين أولت الصحف والمجلات الثقافية اهتمامها للنص القصصي، لأنّ كتّاب هذا الفن اقتنعوا فعلاً بالمسؤولية الواقعة عليهم من أجل الحديث عن المجتمع هموماً وأحلاماً، ولأنّ النقد الأدبي ماشى النصوص المنشورة في الصحف والمجلات والمطبوعة كتباً وأيّد الجميل منها، وبيّن مواقع إبداعها ومكامنه وصوره والتقنيات المدهشة التي اخترعها كتاب هذا الفن البديع، اليوم ومنذ سنوات، يتراجع الاهتمام بفن القصة القصيرة، ويكاد يوازي عدم الاهتمام به الانصراف عن المسرحية، بعد أن استأثر التلفزيون بالدراما العربية، وحدّد مزاجها بالمسلسلات، مثلما حدّد أزمنتها ومواسمها أيضاً.

كل هموم الطبقة الوسطى وأحلام أهلها كانت جلية وبادية في النصوص القصصية، وكل صور العادات والتقاليد وأنماط السلوك لأي مجتمع من مجتمعاتنا كانت ظاهرة في النصوص القصصية، لا بل إنّ صيغ التعامل بين الناس والأجيال، وحالات القبول وعدم القبول، كلها كانت حاضرة داخل متون القصة القصيرة، وكانت الآراء النقدية تشير بدلالات عميقة إلى أنّ التجارب القصصية الوازنة هي الصوت المعبر عن كل شؤون الحياة في المجتمعات العربية، ومنها الشؤون الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية، والثقافية، لأنّ النصوص القصصية استطاعت تستنباط ما يجول في أعماق الذات الإنسانية من ترسبات الماضي من جهة، وما تحلم به من تعاملات وسلوكيات ورغبات من جهة أخرى، لا بل كان الأمر أكثر من ذلك خلال السنوات الماضيات، وهو ما تجلى من اهتمام بنصوص القصة القصيرة حين نقلت إلى التلفزيون، عبر ما سمي بـ”الحلقة التلفزيونية الواحدة”، أو أنها نقلت إلى المسرح، بعد تفريغها إلى حوارات وشخصيات وبيئات ونهايات وخاتمة.

اليوم، كل هذا الاهتمام غائب، أو أنه يحضر، بين وقت وآخر، حضور المصادفة، وهذا ما يؤلم حقاً، لأنّ اختفاء فن القصة القصيرة يعني اختفاء جزء مهم ومكين من الجمال الأصيل، وهذا ما أقوله عن غياب فن المسرحية، وقلة تأثير فن الشعر أيضاً.

إنّ عودة الدورة الدموية لفن القصة القصيرة، وهذا ما أود توكيده هنا، ليست دعوة فقط، إنما هي حلم من الأحلام العلوق بالجمال، والحذق، والفن السامي النبيل الذي عرفناه ووعيناه في تجارب قصصية عدة.

Hasanhamid55@yahoo.com