ثقافةصحيفة البعث

“سقوط الجمرة الأخيرة” مونودراما روائية لرنا محمود

ملده شويكاني

“إلى السالكين طريق الحبّ المنتشين بلذّاته، وإلى المصابين بلعنته”، إهداء كتبته الشاعرة والفنانة التشكيلية رنا محمود في روايتها الأولى “سقوط الجمرة الأخيرة” الصادرة عن دار توتول، فتكامل الإهداء مع الحبّ الذي يفجره اللون الأحمر على الغلاف، ليشكّلا لوحة تتلاءَم ومنحوتات رنا محمود الأنثوية، ومع الموتيفات البسيطة التي تشغل بعض صفحات مجموعاتها الشعرية بريشتها المعبّرة عن طاقة أنثوية تبنتها الكاتبة بمسارها الأدبي والفني.

وتقترب الرواية من المونودراما، المفهوم المسرحي من حيث السرد، أكثر من خصائص الرواية التقليدية التي تعتمد على تعدد الشخصيات وتعاقب الأزمنة والأمكنة والاتكاء على التاريخ في كثير منها، إذ كانت رنا محمود المونودراما، بطلة الرواية والشخصية الرئيسة فيها، تقوم بدور السارد بصوت ضمير المتكلم، وتتكئ على أحداث الحرب الإرهابية على سورية وتبعاتها الاقتصادية من خلال سرديات يومية عاشتها أو من مخيلاتها ومشاهداتها، تتضمن ذكر شخصيات ثانوية وردت بحضور بسيط مع حوارات مقتضبة مثل صديقتها “رولا” و”أحمد” و”حسان” و”مهند”، لتكون ضمن العناصر المنفعلة بالأحداث.

ويبدو تأثرها بالتشكيل بالوصف الدقيق لتفاصيل الأمكنة التي تنطلق من اللاذقية وريفها إلى دمشق الخالدة، التي دخلت الروائية في محرابها لتوظّف دمشق القديمة وتراثها اللامادي ضمن صفحات الرواية.

تتصف الرواية بتقنية المتصل ـ المنفصل عبْر تتالي السرد الذي قُسّم إلى عناوين نصوص متتالية، يشبه بعضها عناوين القصائد الشعرية بفنية مباشرة وغير مباشرة، أما لغتها فكانت أقرب إلى الواقعية التي لا تخلو من التراكيب الشعرية، ولاسيما بوصف المكان والحالة النفسية المحرّكة للحدث حيناً.

والملفت بأسلوبها أقوال المشاهير التي اقتبستها ورأت أنها مناسبة للمتن الحكائي، مثل نصّ الانتظار، إذ دوّنت بالمقدمة ما قاله محمود درويش “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، وفيه انطلقت من المحطة بانتظار الحافلة التي ستقل الركاب من اللاذقية إلى دمشق “تمعنتُ في وجوه الركاب الذين سئموا الانتظار، كانت وجوههم جميعاً نساء ورجالاً كباراً وصغاراً، يقطر منها حصرم الحياة متشحة بالأسود أو الرمادي، وسألتُ نفسي: هل هو ثقل الانتظار؟ أم أن أثقال الحياة وتداعيات الحرب المجنونة التي التهمت حرائقها كل الأشياء الجميلة في بلدنا؟”.. وتتتالى النصوص التي تتعلق بأحداث الحرب الإرهابية إلى أن تصل الروائية إلى منزلها حين هاجمها الإرهابيون وهددوها بقتل صغيرها الوحيد “حسان”، فتمكنت برسمها الكلمات من تصوير مشهد سينمائي مخيف، تذكرنا به بأفلام الرعب وأكثر من ذلك إلى تفاصيل دقيقة لآكلي لحوم البشر، وهي تستحضر الحادثة في الزمن الحالي بعد عشر سنوات من حدوثها، لتكتشف أن الذكرى أكثر مرارة من الحدث ذاته، في نص “الإخوة الأعداء” ووقعته بقول محمد المنسي قنديل “إنّ حرب الأهل هي أمرّ أنواع الحروب”، ثم تكتب “وأكثر ما أرعبني، وما يزال بدني يقشعر كلما أتذكر تلك الرسائل التي أخبروني فيها، أنهم سيدعونني إلى وليمة تليق بي، ويقدمون لي لحم ضان طري، وسيضعون وسط القدر رأس ابني الصغير”.

ومن الحرب إلى الحب، ففي نص “طرتُ إليه” الذي وقّعته بقول نزار قباني “لا أستطيع التحرر منك، ولا أستطيع التحرر مني”، فتبوح بهواجس أنثى غاضبة تقرر مواجهة الحبيب الذي خان الود، بتهديدات شديدة اللهجة “بعد قليل سأذهب إليه، سألقنه درساً لن ينساه، قد أضربه، وقد أهشم وجهه الذي أحببت وصوته الذي عشقته من المكالمة الأولى، وسأغير على كل كلمات الغزل والرقة المشبوهة التي منحني إياها في يوم من الأيام”.

ولم يغب عنصر التشويق وإثارة القارئ بأخذه إلى طريق مجهول بمغامرة غير متوقعة، كما في نصّ “أطراف الغابة” الموقع بقول شكسبير “نحن مع مرور الوقت نكره ما نخاف”، فوصفت بدقة الخوف الذي ألمّ بها “انتبهتُ فجأة أني ابتعدتُ كثيراً عن الأبنية السكنية، وأصبحت في مكان يخلو من الأبنية والسيارات، أردتُ العودة، وما كدتُ ألتفت إلى الخلف حتى وقفت سيارة جيب فخمة أمامي”.

كما شغلت دمشق الخالدة صفحات من الرواية بنصوص تغلغل بعضها بوصف أرصفة وجدران وأقواس دمشق القديمة وبيوتها، وتجاوز ذلك إلى التطرق إلى  تفاصيل بعض الحرف اليدوية المتأصلة، والتي تعد جزءاً من تراثها اللامادي، بعنوانها المباشر “سوق الحميدية” وقد اختارت قولاً لتشي غيفارا “خير لك أن تموت واقفاً من أن تعيش على ركبتيك” برمزية إلى قوة دمشق التي تعني سورية ومواجهتها الصعاب والأزمات منذ الأزل، ونهوضها من جديد لتكون أقوى، ويبقى صوت البائعين النابض بالحياة أقوى من الحرب الإرهابية وتبعاتها، وفي هذا النص تناولت بفنية غير مباشرة الحضارات العريقة التي تتالت على هذه الأرض “هي أرض النور وأرض الحضارات العريقة وأرض الفروسية والمدنية والازدهار منذ العصور القديمة مروراً بالعصر الأموي الذي حكمت فيه هذه البلاد العالم”.

وتأتي هذه التجربة الروائية بعد العديد من المجموعات الشعرية التي أصدرتها رنا محمود، وبعد الكثير من المنحوتات لتكون أنموذجاً عن التواصل بين الفنون والأدب بعلاقة تواشجية.