والشيء بالشيء يُذكَر
عبد الكريم النّاعم
خرجَ من بيته ليمشي بضعَ مئات من الخطوات، كما يفعل أحياناً، فلم تَعُدْ له رغبة في الخروج لأسباب صحيّة ونفسيّة، وبين الصحّة والنفس علاقة مطّردة، مشى قليلاً فوقف أمامه رجل منتَصِب القامة، وبوجه فيه شاربان منسّقان جميلان، وليس فيهما شعرة سوداء، ووقفَ الآخر ونظر في وجهه وقال مستفسراً: “ألستَ الأستاذ فلان، أجابه بلطف: “نعم هو بعينه”.. اقترب الرجل منه أكثر وأمسك بيده وقبّله على وجنتيه، وقال له: “سامحني لم أعرفك”، أجابه: “أنا كنتُ من طلاّبك يوم كنتَ مديراً لمدرسة كذا، أيامكم لا تُنسى يا أستاذ، حفظك الله وقوّاك”، وغادر، استعادتْ ذاكرتُه بعض مفردات ذلك الزمن، ومضى يتابع سيره.
وبعد أكثر من خمسين خطوة، اقترب منه رجل يبدو عليه التقدّم في العمر، وسأله: “ألستَ الأستاذ فلان؟”، أجابه: “نعم هو بعينه”، فقال له باشّاً: “الله يرحم أيامكم، أنا كنتُ من تلاميذك في الصفّ الأوّل في مدرسة كذا، الله على تلك الأيام فهي لا تُنسى، حفظك الله وقوّاك”، وغادر..
شعر بشيء من الأنس الذي يشوبه حزن خفيف، ففي تلك الأيام كان شاباً يضجّ بالحيويّة، وكان يمشي من بيته، معظم الأيام، من حيّه البعيد عن مركز المدينة إلى منتصفها، وما هو أبعد، فما يحسّ بالتّعب، أما اليوم، ما يكاد يمشي مائتي خطوة حتى يشعر بألم في ركبتيه، وفي أسفل كعبيه، ففي آخر صورة لقدميه تبيّن أنّ في أسفل كعبيه نتوء عظميّ، وقفز إلى ذاكرته المثل المعروف: “وزاد في الطّنبور نغماً”.
في تلك الأزمنة كان معظم المعلّمين يحملون مساطر عريضة بعض الشيء لمعاقبة مَن يرون أنّه يستحقّ العقاب، ولا شكّ في أنّ بعض المعلّمين ربّما زادها حبّتين كما يقولون، وكانت النّظرة التربويّة تقول إنّ بعض الطلاّب لا يمكن ردْعهم إلاّ بالعقوبة التي تتجنّب الإيذاء، وعلى الرغم من ذلك فإنّ تلاميذ تلك المراحل ما يزالون يُكنّون، في معظمهم الاحترام، وكان المعلّم ممَن يُشتكى له من أهل التلميذ إذا لم يقدروا على ضبطه في البيت، وأمّا الآن، وبعد سلسلة من الأوامر الإداريّة التي تراكمتْ منذ أكثر من خمس عشرة سنة، فإنّ التلميذ ما يكاد يهتمّ بمعلّمه إذا رآه في الشارع، وكان جيلنا يتهيّب أن يُواجه معلّمه، احتراماً وتقديراً، فأنتجْنا بعد تلك البلاغات والأوامر جيلاً منفلِتاً كما أشرنا في زوايا سابقة، والأنكى من ذلك أنّ أهل معظم التلاميذ انحازوا عن غير وعي بالمجريات ونتائجها لأبنائهم، سواء أكانوا مُحقّين في شكواهم أم لا، فيذهب بعضهم إلى إدارة المدرسة إذا شكى ابنه من معلّمه ليُهدّد بأنّه سيشكو المعلّم لمدير التربية، وهو ينتصر لعاطفة غير بصيرة، بل استجابة لغريزة مُبهمَة لا يعرف عن نهاياتها شيئاً.
أيام كان التعليم الألف بائي وقراءة القرآن في الكتاتيب كان الأب يأتي بابنه ويوصله لمَن سيتكفّل بتعليمه، ويقول له: “لك اللحم ولنا العظْم”، وعلى الرغم من العديد من السلبيّات تخرّجتْ أجيال على حب معلّمها واحترامه.
قرأ في تسعينيات القرن الماضي إنْ لم تخنْه الذاكرة أن بريطانيا، وهي مَن هي في العلم والأكاديمية، والتقدّم، أقرّتْ العودة إلى استعمال التأديب بالمسطرة، فبعض التلاميذ يكفي النظر إليه نظرة تحذير، أو لوم حتى يرتدع، وبعضهم لا يستقيم إلاّ بالعصا، ومن هنا جاء المثل الشعبيّ القديم “العصا لِمَن عصى”.
تأمّل تطوّرات المجريات وهو عائد إلى عزلته، وتساءل إلى أين نمضي،؟!! تساءل بمرارة فهو من جيل كانت أحلامه بحجم مفهوم الأمّة، وها هو اليوم يواكب مُكرَهاً كلّ الانكسارات، فاغتمّ مُراهِناً على أمل ما.
aaalnaem@gmail.com