دراساتصحيفة البعث

فرنسا في عنق الزجاجة السياسية

ريا خوري

بعد مضي مدة ليست بالقصيرة، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنهاء حالة الجمود السياسي، وأعلن تسمية ميشيل بارنييه رئيساً جديداً للوزراء دون الحصول على إجماع على مهمّته بين أغلبية القوى السياسية داخل الجمعية الوطنية الفرنسية، وكان بارنييه قد أعلن عن ترشّحه للانتخابات الرئاسية الفرنسية، لكنه فشل في حشد الدعم الكافي داخل حزبه.

الجدير بالذكر أنَّ بارنييه يبلغ من العمر ثلاثة وسبعين عاماً، وهو من أشدّ المعجبين بأوروبا، وعضو في حزب الجمهوريين الذي يمثَّل اليمين التقليدي الفرنسي. ويتمتّع بارنييه بخبرة تمتد لحوالي أربعين عاماً في السياسة الفرنسية والأوروبية، وقد شغل العديد من المناصب الوزارية المختلفة في فرنسا، بما في ذلك مناصب وزير الخارجية والزراعة والبيئة، وكذلك شغل مرتين منصب مفوض أوروبي ومستشار لرئيس المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين.

لم يتمّ التوصل إلى توافق كامل بين الأحزاب والقوى السياسية الفرنسية على الرغم من التجاذبات الفرنسية العقيمة التي دامت عدة أسابيع ولدى شرائح واسعة من الرأي العام، ما ينذر بأزمة أكبر تعمّق صدمة نتائج الانتخابات التشريعية الاستثنائية الفرنسية التي جرت قبل حوالي شهرين، ويفاقم الخلاف الساخن القائم بين قصر الإليزيه والتيارات الحزبية المختلفة.

العديد من الأحزاب والقوى السياسية الفرنسية لم تتوقع ما أقدم عليه الرئيس ماكرون بتسمية بارنييه كخطوة وصفت بأنَّها غير مدروسة وغير مجدية على الصعيد السياسي الفرنسي، في ظلّ ضبابية سادت المشاورات الرئاسية مع الأحزاب الفائزة، ورفض ماكرون القاطع تعيين مرشح من الجبهة الشعبية اليسارية المتصدّرة لمقاعد الجمعية الوطنية، والتي كان لها أدوار يعتبرها خطيرة وتهدِّد محركات الدولة الفرنسية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، حسب رأيه، وبدلاً من أن يتبع العُرف الدستوري قرَّر الإتيان بشخصية ظاهرها يشير إلى أنَّ بارنييه (رجل دولة)، لكن جذورها تلتقي مع بعض طروحات اليمين الشعبوي المتطرف خصوصاً بشأن النظر إلى مشكلة الهجرة.

بهذا الإجراء، الذي يعتبر مقامرة سياسية، يبدو أن ماكرون يأمل أن تسمح المفاوضات الدائرة في الغرف المغلقة بإعادة تقسيم منظومة التصويت في الجمعية العامة، واستمالة بعض الأطراف على حساب أطراف أخرى. فقد أعلنت زعيمة أقصى اليمين المتشدِّد مارين لوبان أن حزبها لن يكون جزءاً من الحكومة الجديدة القادمة، لكنها تركت الباب موارباً بشأن منحها الثقة، وقالت إن ذلك سيعتمد على برنامجه الذي سيدير من خلاله الحكومة الفرنسية المزمع تشكيلها، ورؤيته للتعامل مع المخاوف بشأن الهجرة المتدفقة إلى فرنسا.

اليمين المتطرف الشعبوي حقّق باسم حزب “الجبهة الوطنية” نتائج مميزة في الانتخابات ليصبح مسيطراً على أحد عشر  مجلساً بلدياً، كما حصل على المركز الأول في انتخابات البرلمان الأوروبي، وله موقف من خطوة ماكرون يمكن أن يكون حاسماً في منح الثقة لـ بارنييه مع أحزاب يمين الوسط التي ينتمي إليها ماكرون. أما القوى اليسارية الوازنة في الشارع  الفرنسي والبرلمان ممثلة في (الجبهة الشعبية)، فقد اتسم ردّ فعلها بمواقف متشدّدة، وقال زعيمها البارز جان لوك ميلانشون إنَّ الانتخابات البرلمانية تمّت سرقتها من الشعب الفرنسي، فيما اعتبر زعيم الحزب الاشتراكي، أوليفييه فوري، العضو  البارز في التحالف اليساري مع جان لوك ميلانشون، أن تعيين بارنييه، الذي ينتمي إلى الحزب الجمهوري صاحب المرتبة الرابعة في تصنيف القوى الفائزة بالانتخابات التشريعية “إنكار للديمقراطية”، وأن فرنسا بهذا التعيين دخلت أزمة نظام سياسي غير مسبوق.

مثل هذه المواقف ربما تعني أن المعضلة الحقيقية التي تواجهها فرنسا لما بعد الانتخابات التشريعية ستبدأ الآن بعد حوالي شهرين من التسويف وترحيل الخلافات الساخنة، وقد تكون أخطر إذا فشل بارنييه في الحصول على العدد الكافي من أصوات الثقة في الجمعية الوطنية، أما إذا تجاوزت الحكومة الفرنسية الاختبار البرلماني بنجاح، فستكون ضعيفة وهشّة وستصطدم بالقوى اليسارية من اليوم الأول لتشكيل الحكومة الجديدة.

إذا تسلّم بارنييه منصبه فسيكون أكبر رئيس وزراء فرنسي (يبلغ من العمر ثلاثة وسبعين عاماً) يتسلم منصبه خلفاً لغابريال أتال البالغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً، والأصغر سناً في تاريخ الجمهورية الخامسة. ولهذا الانتقال دلالاته ومعانيه، فهو يأتي في سياق العديد من الأزمات السياسية غير المسبوقة التي تشهد تنافراً كبيراً بين القوى والأحزاب، وتمرداً صريحاً وواضحاً على التقاليد الدستورية والتشريعية، ودعوات عملية لإقالة ماكرون والتي وقع عليها أكثر من ثمانين نائباً أغلبيتهم من حزب (فرنسا الأبية) اليساري. أما رئيس الوزراء الذي تمّ ترشيحه لتشكيل الحكومة ميشيل بارنييه، المفاوض البارع ومتسلق جبال الألب السابق، فسيجد أمامه، إذا أصبح رئيساً للوزراء، ظروفاً جديدة، وواقعاً مختلفاً قد يحرمه من تتويج مسيرته السياسية بنجاح، وسيخرج من الباب الخلفي إذا عجز عن إيجاد توافق نادر بين تناقضات ونزاعات فرنسية شديدة التأزم والخطورة، وهي قضية لم تعهدها فرنسا من قبل.