ثقافةصحيفة البعث

“قناع بلون السماء” رواية المكان والهوية بامتياز

أمينة عباس

ما زالت رواية “قناع بلون السماء” للأسير الفلسطيني باسل خندقجي المحكوم بثلاث مؤبدات في سجون الاحتلال مادة دسمة للنقد والقراءات بعد فوزها بجائزة البوكر العالمية لعام 2024، إذ عقد فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب بالتعاون مع أكاديمية الثقافة ندوة حولها، مؤخراً، بإشراف رئيس الفرع وإدارة الكاتب أيمن الحسن وهي الرواية التي تحرر الكاتب من خلالها من عذابات السجن ويومياته، حيث طاف بروحه وتجول بقلمه بين صفحاتها في معظم الأمكنة الفلسطينية التي كانت بطلاً أساسياً في الرواية، يقول د.حسن حميد: “كُتبت هذه الرواية في السجن الإسرائيلي لتقول إن الحياة عتمة وعذاب في ظل الظلم الإسرائيلي لا في سجونه وحسب، إنما في مواجهته أيضاً، وهي رواية بحث تستند إلى مرتكزات عدة، منها التاريخ والآثار والأفكار والعقائد وما يرويه العقل الجمعي عن الأمكنة والأزمنة، وهي كذلك حكاية المعطف القديم الذي اشتراه نور بطل الرواية من دكان الملابس العتيقة في السوق، والهوية الزرقاء الإسرائيلية التي وجدها في جيبه والتي ستصبح قناعاً له يخوّله إنشاء علاقات مع الإسرائيليين واجتياز نقاط المراقبة والحواجز ودخول جميع الأماكن والمؤسسات وحضور الندوات والمحاضرات.. الرواية صعبة وتحتاج إلى جهد للإحاطة بما فيها من أمكنة وأزمنة وحوارات وغايات وأحلام لأنها أرادت أن تكون رواية بحث وجدل وعصف لتاريخ ومكان تناهبته مفاعيل القوة التي طمست ومحت وغيَّبت أمكنة وحقائق تاريخية واجتماعية وثقافية”.

ويصف المفكر السياسي أبو علي حسن الرواية قائلاً: “كُتبت الرواية بين جدران الزنازين الصهيونية بقلم فلسطيني وردي الرؤية وهو الذي لا يزال يقبع فيها أسيراً فلسطيني الهوية والموقف ومثقفاً ممتلئاً بوطنيته ونجح في كتابة رواية اخترقت القضبان إلى فضاء أوسع، مغادرةً عتمة السجون، باحثاً كاتبها عن الوجود والهوية عبر أسرار الأرض التي يعشقها بما تخفيه من آثار وتاريخ، مطلقاً العنان لمشوار فلسطيني متخيل لا ينفصل عن الواقع بقدر ما هو تجسيد له للوصول إلى الحقيقة المطلقة المطمورة لإثبات الوجود وتأكيد سردية فلسطينية في الزمان والمكان، فنور بطل الرواية لم يولد في المخيم ولم يترعرع فيه، بل ولد منه وهو ابن المخيم، وأراد قول إن هناك فرقاً بين أن تولد في المكان وأن تكون من رحم المكان، وهذا يعكس وعياً لسيسيولوجيا المخيم، فأن تكون ابن المخيم يعني أن يكون وعيك وتفكيرك في بنيته مختلف، ويلقي نور ابن المخيم الضوء على حالة البؤس التي يعيشها وأسرته فيه، في الوقت الذي تبدو فيه علاقته مع القدس علاقة عشق، مع رفض الكاتب إطلاق اصطلاح “الكيبوتس” على المستعمرات لأن الكيان حاول من خلاله إضفاء مسحة إنسانية واجتماعية عليه”.

ويتعقَّبَ الناقد د.ثائر عودة في مشاركته معظم الأمكنة التي حلّق فيها خندقجي بروايته، متجاوزاً حقيقة سجنه، متوقفاً ملياً عندها لأنها لم تكن مجرد أمكنة عابرة في الرواية وحياة بطلها “نور” على الرغم من تعددها واختلاف موقفه منها، يقول: “يمكن رصد ثنائيات مكانية متضادة تشكّلت داخل المتن الروائي خدمت السياق السردي ومنحت النص بعداً جمالياً وفنياً من خلال الكشف عمّا يعتري النفس من مشاعر وارتباطات اتجاه الأمكنة، فكانت شرايين تغذي العملية السردية برمتها وهي لا معنى لها إلا بإحالاتها الدلالية وتأثيرها على الهوية والانتماء”، ويضيف: “تمثل مدينة القدس المكان الأليف الأكبر لعموم الشخصيات، وعلى رأسها الراوي “نور” أثناء وجوده فيها، وقد أمعنت الرواية في تأكيد هذا المعنى كثيراً بجعله ملمّاً بكل دروبها ومسالكها ويعدّها الحاضن الرئيس لإثبات هويته الفردية، وبالمقابل يضعنا أمام تجليّات المكان المعادي التي ظهرت في ثلاثة اتجاهات، الأول الخاص به، فنرى أن المخيم من الأمكنة المعادية بالنسبة له، لذلك يعقد مقارنة بين المخيّمات والمعسكرات النازية لجهة الخوف والعذاب والوحشية التي يمارسها الصهاينة ضد الشعب الأعزل، فلا يتوانى عن إعلان عدائه للمخيم الرامز للنكبة والشتات فنراه يتابع ما يجري في القدس والتوترات الحاصلة فيها، مقابل الخواء المادي والروحي الذي يكتنفه عندما يتعلّق الأمر بالمخيم، حيث لا تتحقق هويته إلا في ظل وجوده في مكان يمثّل المركز القلبي له “القدس”، أما الاتجاه الثاني فيتمثّل في تناول السجن بوصفه مكاناً يقتل الروح الإنسانية ببطء، ليتجلى الاتجاه الثالث في نظرة الفلسطينيين للمستوطنات الصهيونية، فالقدس والبلدات القديمة هي المكان الأليف للفلسطيني والمستوطنات أماكن معادية فنراه يحرص على إعلاء شأن الأماكن التي تعبّر عن العراقة الفلسطينية، فلا يملّ من تكرار أسمائها الفلسطينية وتحديد المواقع الأصلية لها، ليؤكد أن المستوطنات قامت على أنقاضها وعلى أشلاء أصحابها بعد تغيير ديموغرافيتها السكانيّة ومعالمها المكانيّة، وقد جاء هذا العرض الهوياتي بشكل غير مُقحَم في السرد، إذ يعمل نور في الإرشاد السياحي ومن الطبيعي أن يكون ملمّاً بتاريخ بلاده وتفاصيل أمكنتها وما جرى من تغييرات عليها من طرف المحتل”.

لقد تجاوز خندفجي الفضاءات التي يرزح تحت وطأتها وكتب رواية خارج السجن، وهذا يعني حسب الكاتب محمد حسين أنه “يمتلك خيالاً خصباً مكَّنه من تجاوز ظروف مكانه، فتناول أمكنة أخرى، بعضها يعيش تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، والقدس التي تعيش تحت احتلال إسرائيلي دموي فاشي، والمخيم الذي كان والده يعيش فيه والذي تحول فيه من مناضل معتقل في سجون الاحتلال إلى بائع للحليب والشاي من دون ذكره لاسم المخيم ليقول إن كل المخيمات تتشابه والمعاناة تتشابه وإن اختلفت أسماؤها، وقد حاولت الرواية ألّا تتحدث عن الحق الفلسطيني فقط، بل عن توثيق الممتلكات الأثرية الفلسطينية وتأكيد أهمية الممتلكات الثقافية في فلسطين، وهي بذلك تحررت من صندوق أدب السجون المعتاد لأنها أول رواية لا تتحدث عنه كمكان بخلاف الكتابات الأخرى التي كتبت عنه وعن مقاومة السجان، فكانت رواية في عمقها تتحدث عن الهوية الأصلية الفلسطينية والهوية الطارئة المزيفة لتقول “لا الهوية المفروضة ولا الهوية المؤقتة تستطيع إنهاء وإذابة الهوية الفلسطينية”.

تتعدد صور المكان في هذه الرواية من السجن الصغير إلى السجن الكبير ويرسم الروائي مكانه الحلمي والواقعي ارتباطاً بفلسطين التاريخ والجغرافيا، حسب الناقد أحمد هلال الذي يقول: “المكان الواقعي هو ما تصرّ عليه الرواية بعد مرافعة تاريخية تبديها في متونها وحكاياتها لأنه سيعني مجازاً فلسطين الواحدة الموحدة، إذ جعله خندقجي بمنزلة الهوية بذاتها في مقارعتها لهوية زائفة في رواية تتعدد مستوياتها وطبقاتها وصولاً إلى تأويلها كمعادل لما قاله “مارتن هيدغر” الفيلسوف يوماً “المكان هو مثوى الكينونة”، فيقف خندقجي في محكيه الروائي شاهداً على المكان وإعادة استنباته في الوعي والذاكرة، لتتخذ أطروحة المكان لديه في الرواية أبعاداً وتوصيفات كثيرة أدلها الارتباط بالإنسان الفلسطيني بتعالق التاريخ والجغرافيا، فالمكان في الرواية ليس حيزاً ضيقاً، بل هو يوازي حيوات ومصائر الفلسطينيين بتعبيره الوجودي والفلسفي واللغوي الذي تنصهر فيه عناصر المكان ومفرداته ليصبح نظيراً للهوية وطريقة للدفاع عنها وانتزاعها من قلب السردية المضادة الاحتلالية، وعليه فإن تجليات المكان جاءت تمثيلاته المجازية والواقعية لتحفر في الذاكرة الفردية والجمعية.. من هنا فإن الرواية هي رواية المكان بامتياز وما يعادله في الوعي والذاكرة والبحث، فحضر المخيم الذي لم يعشه الكاتب والذي منحه سؤال كينونته، كما تداخلت الأمكنة بوصفها السجن الكبير والتي تنزع إلى حريتها، فكانت الرواية بنزوعها التجريبي مغامرة تضارع الواقع والمتخيل لتذهب إلى اجتراح المعادل للذاكرة والمكان”.