صندوق الفرجة القاتل الصامت
غالية خوجة
تتداخل الفضاءات التكنولوجية مع وسائل التواصل الاجتماعي المتناسلة إلى ما لا نهاية، وتتداخل التعليقات بحبالها المفتوحة على الغارب، وتظهر مستويات الدواخل البشرية، وتسقط أقنعة الظاهر كاشفة عن الحقيقة الباطنية لكلّ شخص، وبيئته وأسرته ومستواه الأخلاقي والتربوي وطريقة تفكيره ونسبة وعيه في الحياة والناس والهوية والوطن، فتموج الثرثرة مع الألفاظ السوداء والمريضة والمصابة بعاهات لا تُحصى، والغالبية “تهرف بما لا تعرف”، وطبعاً، رأيها غير قابل للاستئناف والطعن والنقض!
العالم الافتراضي أشبه بكشكول اختلط فيه الحابل بالنابل، وللواقف على مرصد فضائي مراقب أن يكتشف كيف تقضي البشرية أعمارها، صغاراً وكباراً، وكيف تستهلك أيامها، مع “صندوق الفرجة الإلكتروني”، فتمنحه ما يطيل عمره على حساب تقصير عمرها الإنساني والإنتاجي وتطوير ذواتها ومهاراتها وتفكيرها ومستواها في كلّ المجالات العلمية والثقافية والتعليمية والإبداعية والحياتية والعائلية والذاتية.
هو ينمو حضوراً وأموالاً وهي تتقزّم!
هو يستفيد من بياناتها بمجملها ويتحكّم بها، وهي لا تعرف كيف تتحكّم بوقتها، فلا تعرف تنظيمه، ولا تخصيصه، كما أنها لا تعرف ما هي البرمجة، لأنه برمجها من دون أن تشعر، وصارت هياكل من لحم وعظم تتفهرس بشريحة إلكترونية لاسلكية، زرعتها رمزياً بإرادتها، واستبدلت بها أدمغتها، طبعاً، بإيعاز تحكّمي من هذا الصندوق الإلكتروني، فصار منها الرأس، وصارت جماجمها بلا عقل!
ترى، ماذا لو غيّر كلّ إنسان في أسلوب تعامله مع عمره الذي وهبه إياه الله، ومع عمره التكنولوجي؟
ماذا لو خصّص الإنسان كل يوم نصف ساعة لكل نشاط حيوي يحبه؟ ووزع أنصاف ساعاته إلى المشي في الطبيعة، والقراءة، وتطوير أخلاقه بنقده لذاته، ولموهبته، ولأهله، ولأصدقائه، ومثلها لهذا الصندوق الإلكتروني، وعاش ساعات يومه الباقية بين عمله وأفراد عائلته ومجتمعه ونومه واحتياجاته اليومية؟
كم هو جميل أن يبرمج الإنسان وقته وعمره روحياً وعقلياً ونفسياً وجسدياً، ليجد نفسه أكثر صحة، وأنقى سريرة، وأشدّ قوة، وأقوى فاعلية، فيضبط الكثير من علاقاته الافتراضية، وتعليقاته غير الضرورية، وينفتح على علاقاته الاجتماعية الواقعية، لأن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، وإلاّ أصيب بالكثير من الأمراض النفسية أولاً مثل الكآبة، تليها الأمراض الجسدية، عدا عن انطفاء التفكير التدريجي، وتدمير خلايا الذاكرة، ومحو المخيلة، والرغبة في العزلة السلبية وغيرها من الأعراض المرضية التكنولوجية، ما يجعل هذه الشاشات وما ترسله وما تأخذه قاتلاً صامتاً.
وبكل تأكيد، أي إنسان سويّ لا يقبل أن يكون مجرد مستهلك، أو عنصراً في حقول الاختبار، يجربون عليه كل الاحتمالات التي، غالباً، ما تكون سامّة، أو قاتلة ببطء، أو بشدة، مثل الكثير من المنتجات الغذائية التي تستهدف صحته أيضاً، وسواها من المنتجات الإلكترونية كالسيجارة والنرجيلة المجهزة بمواد تستهدف خلاياه، وتزرع فيها الكثير من الأمراض الموقوتة.
علينا أن نتحكّم بالآلة لأننا إنسان عاقل، وتظلّ الآلة مهما تطورت آلة لا تعقل، لكن، تحكمها عقول أخرى تريد منك ما تريد هي لا ما تريده أنت، ولتكون الأذكى وظفها لخدمتك ولا تكن خادماً مطيعاً لها، وحاول أن تنافسها بعقلك الفاعل لا المنفعل.
لكن، ماذا عن أجيالنا الجديدة من أطفال ويافعين وشبّان؟
أتوقع من الأجيال العربية الشابة، في الزمن الآتي، أن تفكر في كيفية توظيف هذا الصندوق الإلكتروني لخدمتها، وتدرس هذا المجال البرمجي، لأنها تمتلك طاقات أكبر من طاقات غيرها، ونثق بأنها أجيال تفكر بصناعة المستقبل الذي تصبح فيه هي المبرمِجة، والمخترعة للوسائل والبرامج الإلكترونية، وأن تضيف عليها وإليها ما يفيد هويتها العربية، خصوصاً، والإنسان، عموماً، وتبدع بإيجابية، وبأهداف أخلاقية حضارية.