ثقافةصحيفة البعث

“شغف الأسئلة” ورؤية جمالية لاستنهاض واقعية الدهشة

هويدا محمد مصطفى

“شغف الأسئلة” مجموعة شعرية للشاعر منذر يحيى عيسى صادرة عن “أمارجي للطباعة والنشر” في العراق، وهي تلك الروح التي تنهض بالشعر عالياً ليعانق بروحه الحب، وليكتب القصيدة لوحات سردية حيّة متحركة يرسم فوق السطور بريشة رهفة الألوان ماتعة السرد بعيداً عن التكلف والتعقيد، العنوان يرسم بما في داخله بفرادة المجاز وفرادة العتبة الأولى وجمالية اللوحات التعبيرية التي تمتزج فيها الشعرية التعبيرية بالمعنى الموجّه برقة التعبير الخفيّ والعلني.

لقد استطاع الشاعر منذر عيسى باقتدار شعري عجيب امتلاك أدوات شعرية ترسم الصورة التي تخلق الرؤية، وذلك بقفز اللغة فوق المستوى الكلاسيكي والانزياحات اللغوية والانحرافات التعبيرية، بالإضافة إلى ما تحمله هذه اللغة الشعرية من شحنات متتالية وطاقات قادرة على التحدي، وهنا تتخلق حيوية النص ويتعاظم توهجه فنرى طاقة شعرية قادرة على إزاحة مستويات التعبير إلى عمق دلالي ومشهد شعري متعدّد الجوانب، ونجد حضور الصورة بكل تجلياتها، وفي نص بعنوان “هرب بالموت إلى الحياة” يقول:

في رحلة الكشف الطويلة وجحيم العذاب

والبحث عن رؤيا

أهمّ بها عند الاقتراب من ملكوتها

لكنها مع عبور الغيم تنأى

ويستعر فيّ شغف الغروب

يذيبني الحزن على بساط مخاتل من ضباب

يمارس الشاعر لذة الانجذاب فالتدرج في التعبير من بنية إلى أخرى على الرغم من وضوح المعاني والدلالة، ونجد أنه اعتمد لغة الإيحائية الشعرية، ومزج بين الواقعية والخيال، منتهجاً فيضاً من الحيوية من خلال مفرداته الخاصة الممتزجة بالنزعة الفلسفية، فالقصيدة تعمد إلى بساطة العبارة ووضوحها والتماس الشعر في المعنى الكلي المنبثق من حالة تأكيد الحالة أو إعلائها بالصور البلاغية، وتداخل المشاعر في المعاني، هنا تعلو حالة من الوجد والتوق، وهو اختيار جميل يأخذنا إليه الشاعر، يقول في نص “أشياء جميلة”:

جميل

أن يستمر المداد في القلم

وجميل أن تحاور الألم

وأن تلون البياض

وتلامس القمم.. وجميل

أن تعاقر حلماً

لتقتل السأم..

حين يمازج الحبّ الروح فحتماً هو يغسلنا من أتعاب الحياة ومشقاتها وهمومها، وحين نجعل من الحب متوضأ يغسل عنه كل أدران الحياة وأتعابها ويتأجج الشوق الصادق للمحبوبة لتنبع من ثنايا الروح ومن أعماق النفس والقلب، إنها وطن الروح وأرض النفس وسماء القلب فكل الحروف لوحة صوفية وطئت النص بصدق مشاعر الشاعر، فبدا كالطفل المدلل تحت رعشات الشوق الذي لا ينتهي، وهنا الشاعر أبدع في استعمال الاستعارات فجاء التوصيف بذكاء مبتكر من الشاعر لكل ما حوله من الطبيعة والذكريات، إذ لجأ إلى تكثيف المعاني في عبارات وجمل شعرية مقتضبة يحيط الأفكار بفضاءات عاطفية وفلسفية تنسجم مع أرواح المعاني كما جاء في نص “خيمة الجسد”، ليقول:

لو تنامين قريباً مني

لو..

كنت سأتحوّل نبات عوسج

ينسج خيمة لجسدك الرهيف

تحمي أحلامك في يقظتها

من أعين العابرين…

ينسكب الحزن على العاطفة المتأججة وتدخل الطبيعة طرفاً في العلاقة الثنائية، فتكتشف هذا التنوع الصوتي لتتالي صور عاصفة تطاول المستحيل، ونجد الموسيقا المستمدة من وقع كلمات ذات جرس واحد هي ليست محض حيل فنية، بل هي تؤكد محاولة تقريب الشكل من المضمون وتعطي القصيدة خصوصيتها التي تشبه العزف المنفرد على وتري الغياب والحضور، يقول في نص “خلاص الروح”:

أتكور في حضن الوقت

أقبس دفئاً وأنتظر

يتراكم حولي رماد السكون.. وحدها الروح

تغرد في المدى

تنشد لوحدها الخلاص

ويبدو الشاعر متأثّراً بمحيطه المملوء بالحزن والحرب فبدت دلائل كثيرة تسكن خلجات الذات، فالتأمل الباطن صيرورة التوهج، لأن الذات تأبى الانكسار وتتأثر بالمحيط، فالصور البيانية والعاطفية تتجه باتجاه الانزياحات الدلالية المعنوية، من خلال ذلك استطاع الشاعر أن يوظف إمكانات اللغة وما تحويه من ترادفات وجناسات واستعارات ومفردات استمدت من صميم التجربة كما جاء في نص “شغف الأسئلة”:

تأتين من خلف السحاب مثقل بدهشته

ترتدين وجهاً تناسل من الشفق.. أسئلة

تدخلين محراب الوقت

ناسكة في حضرة مولاها

فتخرج الشمس.. وقد نسجت لك عباءة

من حرير الضياء

هكذا صناعة الجمال المبتكر يكتسح ما قبله مهما كان نوعه فيلقي بجديد ما ابتكر على منصة الخلق الفني. الشاعر منذر عيسى قدّم نصوصاً شعرية تحمل خصوصية الأداء الفني المتميز وضروراته المقنعة للقارئ ليس كفكرة فقط، إنما كون من الدلالة في تشكيلها الشعري إلى وعي المتلقي لكي تحدث أثراً مهماً وتضيف أبعاداً أعمق تتألف في وحدة عضوية متماسكة ومتسقة مع دلالة الطرح، تنسجم مع المفردات وعذوبتها وهمسها المليء بالانفعال العاطفي عبر صور شعرية هادئة، كهدوء الموسيقا ترصد صوراً ثرية الدلالة متوهجة الإيقاع عذبة المفردات، وهذا يوضح مدلولاً آخر لمستوى رؤية الشاعر لعلاقة الوجود والزمن والحب، وأسئلة مثيرة يطرحها الشاعر من خلال العناوين التي تأخذنا إلى عالمه عبر “مرايا البحر” و”لهفة المرايا” و”نوافذ الروح” و”قيامة الروح” و”شغب الروح” و”خلاص الروح”، كلها عناوين تدلّ على أن الشاعر ينسج حروفه من خلال تلك الروح التي تحمل أبعاداً ورؤية خاصة يلحقها الشاعر بالعالم الحسي الفعّال بنظرة أكثر شمولية وقدرته الخلاقة على صناعة وتشكيل هياكل المحتوى ومضامينها، كما جاء في نص “مرايا الروح”:

بالأحلام نستر عري الروح

ونلملم شظايا المرايا المهمشّة…

علنا نعيد لذواتنا..

بعض التوازن والسكينة

وأخيراً أقول إن المجموعة الشعرية “شغف الأسئلة” صوّرت صوراً ثرية الدلالة، بعيداً عن الحشو والتشتّت، فجاءت النصوص بشكلها الحداثي، ليقدّم لنا الشاعر تشريحاً كلياً لواقع تمتد فيه فلسفة الألم بأزمنة الفوضى الضائعة، والوجع الذي تظلله أوراق الأنا المزكومة بالشرود ما بين الذات والذاكرة من خلال سبر أغوار النفس وما يعتريها من قلق روحي وتمزق سيكولوجي.