رأيصحيفة البعث

‏عودة إلى “التيه” من جديد

علي اليوسف

مادامت النصوص التوراتية أتت على التيه اليهودي، فهذا يعني أنهم لن يستقروا في أي منطقة، بل سيعودون يوماً ما إلى سيرتهم الأولى، حتى الفكرة التي لمعت في رأس بن غوريون كانت مجرد أضغاث أحلام، ورفضاً للمشيئة الإلهية، إذ لا يختلف اثنان على أن الكيان الصهيوني يعيش “هشاشة ديمغرافية” منذ تأسيسه إلى اليوم، وبالتالي فالهجرات الجماعية واردة في أي لحظة، لأن المجتمع الإسرائيلي ليس أمة موحّدة، بل خليط من عناصر بشرية، أي أن لا رابط بين مكوناتها سوى الديانة اليهودية، وحتى التدين اليهودي كان مختلفاً حسب مناطق الهجرة.

بعد 75 سنة يعيش الكيان الإسرائيلي اليوم مع جيل يشكّك في موثوقية هذا الكيان الذي يفتقر إلى كلّ مقومات الدولة، أي أن طوفان الأقصى لم يكن السبب الرئيسي للهجرة العكسية، وإنما كان ذريعة للهروب من إرهاصات القلق الوجودي في مكان لا يشعر أحد بالانتماء إليه، وهذا ما كان واضحاً من خلال زيادة معدل الهجرة قبل 7 تشرين الأول 2023. ففي أعقاب انتخابات الكنيست في تشرين الثاني 2022 والتي بمقتضاها تمّ تشكيل حكومة نتنياهو الأكثر تطرفاً في تاريخ “إسرائيل”، ارتفع عدد الإسرائيليين الذين يسعون للحصول على الجنسيات الأوروبية بشكل ملحوظ. كما سجلت الهجرة العكسية ارتفاعاً ملحوظاً مع اندلاع موجة الاحتجاجات الشعبية ضد حكومة نتنياهو خلال محاولتها الانقلاب على السلطة القضائية في عام 2023، قبل أن تفاجأ بـ “طوفان الأقصى” الذي أجبر حوالي نصف مليون إسرائيلي على الهجرة، فيما يمكن تسميته “عودة إلى التيه من جديد”.

منذ العام 1948، استقدمت “إسرائيل” ملايين اليهود من أنحاء العالم لكي تقيم لهم وطناً على أنقاض الشعب الفلسطيني بعد أن سوّقت الحركة الصهيونية له كملاذ آمن، لكن بعد سنوات من محاولة ترسيخ جذور القادمين على حساب أصحاب الأرض الأصليين، وتوثيق العلاقة بين “المواطنين” و”الدولة”، جاءت عملية السابع من تشرين الأول الماضي لتزلزل هذه العلاقة وتثير هواجس كانت مؤجلة منذ زمن، ما يطرح قضية جدلية حول ما إذا كانت “إسرائيل” وطناً قومياً لليهود، أم إنها مجرد مكان للعيش برفاهية يسهل الرحيل منه مع تقلب الأوضاع.

منذ اندلاع الحرب في غزة، انقلبت المعادلة، حيث غادر آلاف الإسرائيليين مستوطنات غلاف غزة المحاذية للقطاع، كما غادر آلاف آخرون بلدات ومدن الشمال المحاذية للحدود مع لبنان، ولأول مرة يتمّ تهجير نصف مليون من المستوطنين، وإسقاط مقولة الجيش الذي لا يقهر، وإسقاط فكرة الوطن اليهودي، وإعادة قضية فلسطين إلى مكانتها المحورية في الأمة.

اليوم كلّ الشعب اليهودي في حالة تجنيد، ما يعني شللاً في الاقتصاد، والسياحة، والاستثمارات، فالمصانع توقفت، والمدارس والمكاتب والشركات أغلقت، والخسائر العسكرية في اليوم الواحد ٢٤٠ مليون دولار، حتى أن أكثر من ٤٠٠٠ جندي وضابط احتياط رفضوا التطوع، و٤٠٠ طيار رفضوا أداء الخدمة، فيما يبدو لعنة العقد الثامن تحلّ عليهم.

هذه اللعنة قد توسع رقعة الصراع في المنطقة، ولهذا نرى نتنياهو يتجاوز كلّ الخطوط الحمراء، لكن تغيير الشرق الأوسط وفق حساباته الخاطئة سيدفع بتعجيل انهيار الكيان الصهيوني، فدول المنطقة أدرى بشعابها ولن تنجرّ إلى ما يريده نتنياهو وإخراجه من مأزق حكومته المتطرفة، بل على العكس ستتركه يتخبّط في مستنقع أحلام بن غوريون.