ثقافة

عبد الرحمن منيف في ذكراه الكتابة دَريئَة في وجهِ الخُذْلان

حينما بدأت قراءة “مدن الملح” الثلاثية الأبرز لعبد الرحمن منيف، والتي أتت بعد غياب لهكذا نوع من الروايات؛ إذ كان مرّ زمن طويلاً على ثلاثية نجيب محفوظ “بين القصرين، قصر الشوق والسكرية” التي نال عليها نوبل للآداب، والتي شغلت القارئ العربي وحركت مخيلة النقاد والكتاب على السواء، وحينها لم أفكر بالكاتب من يكون؛ إذ طغت الرواية حين صدورها على الراوي، والأهم كان فيما خلّفته وراءها لدى أغلب قرائها، من وجلٍ وخوف “بالمعنى الإيجابي” ذلك الذي يفتح الرؤى والرؤية حول ما يجري في المحيط، والواقع الذي يعاش دون أن تتم رؤية حقيقته.
في واحد من حواراته الصحفية يعترف أن ما كان في ذهنه عندما شرع في ثلاثيته  تلك؛ هو أن يكتب عبرها تاريخاً بالقدر المتاح، تاريخاً “غير رسمي” لم تشوهه وتزوره أقلام مأجورة أو متضررة من كشفه، تاريخاً حقيقياً منسياً أو مسكوتاً عنه، متوازياً مع حياة الناس المجهولين، وبرغم المرارة التي فاضت بها الرواية؛ والتي أتت صادمة في مجملها، فهي أتت توعوية ومصدر إبصار لقارئها: “إذا كان هناك في بعض الأحيان نوع من المرارة في رسم صور بعض الأبطال فهي مجرد محاولة تنبيه أخيرة قبل فوات الأوان، وإذا كانت هناك إمكانية للإنقاذ الآن فلنحاول إذن أن نفعل شيئاً ما. و”متعب الهذّال” أو “وضحة” أو “أمّ الخوش” فهم، وإن انتهوا، لكنهم تركوا بذوراً ومناخاً معيّناً يساعد على رؤية أوضح. وأنا أتصوّر أن مهمة العمل الفنّي هي مهمة مزدوجة، فعليه من ناحية أن يعمّق وعي الناس بالمشاكل، وعليه من ناحية أخرى أن يضاعف من حساسيتهم في التعامل معها، وليس مهمته التبشير وطرح الحلول”.
عبد الرحمن منيف الذي عاش في أرض تعتبر وربما حتى اليوم؛ معزولة فكرياً وبعيدة كل البعد عن تلك التيارات الثقافية والفكرية التي أغنت الحياة في معظم بلدان العالم العربي، إلا أن مسيرة حياته مكنته من امتلاك وعي ونضج ومنهج خاص به عمل من خلاله على الإضاءة على حياة المهمشين والمغيبين باعتبارهم أبطالاً حقيقيين في هذه الحياة: “أنا مجهول من ناحية انتسابي إلى قطر معين، ومن حسن حظي أن هذا الأمر ليس التباساً، هو واقع موضوعي إذ تسنى لي العيش في أماكن عديدة” ولد في عمان لأب سعودي وأم عراقية، عاش في الأردن، درس في بغداد، أقام في القاهرة لفترة من الزمن، عمل في لبنان وبغداد وسورية؛ في دمشق التي أحبها فأحبته، حيث ابتدأ فيها مشروع الكتابة المشتركة عنها مع صديقه الفنان الراحل مروان قصاب باشي، المشروع الذي حالت حالته الصحية دون إتمامه، ليبقى ما خطه قلمه على الورق هويته وانتماءه.
القلم الذي أبدع وبدأ الكتابة بروايته الأولى “الأشجار واغتيال مرزوق” رغم أنه كان كتب شرق المتوسط عام 1972كما قال؛ وقبل أن تنشر له أي رواية سابقة، ثم قدم “قصة حب مجوسية” ليعقبها إصداره “شرق المتوسط” التي شكلت استثناء في عالم الأدب العربي. وبعدها كتب “حين تركنا الجسر” لتأتي “مدن الملح” الانتقالة التي جعلت منه علماً مميزاً، وكرسته رمزاً في عالم الرواية العربية، فثلاثيته الأضخم “أرض السواد”. هذا القلم لشخص ينتمي عملياً لعالم النفط؛ بدأ حياته العملية خبيراً به، وعمل رئيساً لتحرير مجلة “النفط والتنمية” التي صدرت لسنوات عدة في بغداد.
لعل عبد الرحمن منيف خاض تجربته الروائية هذه منذ بدايتها وحتى الرحيل دون أن يكون قد رسم في ذهنه؛ صورة لما يمكن أن تعود عليه، ودون أن يكون واثقاً كل الثقة بالتأثير والفرق الذي ستحدثه، لكنه ربما في الأساس كان يعمل جاهداً في البحث عن ذاته كإنسان يمتلك من السمو والشجاعة ما يجعل من الكتابة دريئته في وجه الخذلانات والانتكاسات التي منيت بها شعوب المنطقة، عبر مواقف جريئة وواضحة؛ ورؤية ثاقبة لحاضر عاشه، استشرف من خلاله الحاضر الذي نعيشه اليوم.

بشرى الحكيم