ثقافةصحيفة البعث

كان أنموذجاً في القصّة والرّواية.. الأديب جورج سالم (1933 – 1976)

وجيه حسن 

قبل أنْ تلامسَ شفة القلم مبسمَ الورقة النظيفة، كان عليّ أنْ أغسل وجهي بنظافة شديدة، لأنّه لا يقبل إلا النّظفاء (لساناً وطويّةً وسلوكاً) أنْ يقتربوا منه، أو يصافحوه، أو يحاوروه… فقد رُئِي بكامل نظافته، وحسن قيافته، وجميل هندامه.. كما كان يُعرَف بحسن خلقه، ونقاء سريرته، وجميل ودّه..

في بدْءٍ عرفته عنْ بعد.. من خلال كتاباته الإنسانيّة، الرّاقية بأسلوبها المُونِق، الحاملة بصدقيّة مشاعرَ كاتب جادّ صارم، مؤمن بأنّ “الكلمة النّابعة من القلب؛ ساقطة أبداً في القلب”، و “أنّ الحكمة ضالّة المؤمن”!

منْ هنا.. سطعَ اسمُ أديبنا السوري الرّاحل، جورج سالم، صاحب “فقراء الناس”، الذي تتلمذ على أيدي الورق والكتب والأقلام والنّدوات والمراجع والمكتبات، حتى ذاع صيتُه بميدان الكتابة القصصيّة في سورية، كأحسن ما يكون التّكنيك القصصي البارِع، بل هو – وبكلّ توكيد– واحدٌ من كبار كتّاب القصّة السوريّة المرموقين.

قلتُ: عرفته عنْ بعد.. سمعت عنه الكثير.. ولست أدري الدّافع الذي طغى عليّ للتعرّف إلى هذا الرّجل عنْ كثب..

ويومَ درستُ بجامعة حلب بالسبعينات، كنت منشغلاً جدّاً.. المهمّ، لم ألتقِ هذا الأديب الكبير سوى مرّة يتيمة، كان ذلك محض مصادفة.. “وَرُبّ صُدْفةٍ خيرٌ…”!!

يوماً.. دخلت مكتبة حلبيّة، بشارع بارون، اسمها “مكتبة المتنبّي”، إنْ لم تكن الذاكرة قد خانتني، مطلع السبعينات، أبحث عن كتابٍ في النّحو والصّرف عنوانه “المَوْرد الكبير”، لمؤلّفه الدكتور الموقّر فخر الدّين قباوة، وكان أستاذي بكليّة الآداب بجامعة حلب، فوقعتْ عيناي على شخصٍ يستطلعُ بدأبٍ شديد، “لكأنّه دودةُ كتب”، كلّ العناوين المنبسطة أمام ناظريه، لستُ أدري لماذا أثار “نَهَمُ” هذا الشّخص جلّ انتباهي، بدأت أدرسه، أستطلعه:

“متوسط ارتفاع القامة، ضعيفُها، مهندم الثّياب، حليق الشّاربين، مقوّس الظهر إلى حدٍّ ما، في وجهه نظافة بادِية، وجديّة المعلّمين القدامى.. كان لا يعير أيّة انتباهةٍ لأحد، رجلٌ بِحالِه ولِحالِه، يرفع نظارته الحرون بسبّابته، كلما تدلّتْ على أرْنبة أنفه، كانت تمازحه، وكان هو صارماً معها…”.

بكثافةٍ تتبّعتُه.. سألتُ صاحب المكتبة، لأتيقّن “هل حدسي في محلّه”:

  • مَن يكون هذا الرّجل؟

كنت قد شككت في صورته، وهيئته، لأنّه سبق لي وأنْ رأيته غير مرّة على شاشات التلفزة، أو رأيت صورته في مجلة هنا، أو صحيفة هناك.

بإعجاب ردَّ:

  • جورج سالم.. مدرّس لغة عربيّة بثانويات حلب، أديب، وكاتب معروف أيضاً!

بتهيّب عصفورٍ حذرٍ اقتربت منه، لكأنّي أقترب من ناسكٍ متعبّد، أو ضريحِ فدائيٍّ بطل، باحترام جمّ بادرته التحيّة.. جاءتْني تحيّته من نحو “فرُدُّوها بأحسنَ منها”؛ وقفتُ معه دقائق معدودات، كانت كافية لتبعث بقلبي محبّة عالية لهذا الرّجل، كان دمِثاً متواضعاً حييّاً ودوداً، حين حدّثني، جاء حديثه بالعربيّة الفصحى، ذات الطّلاوة والنّداوة، خصوصاً حين تنبع المفردات من فم وعقل وجوّانيّة رجلٍ كاتبٍ جليلٍ، كما “السّالم” هذا!

ما رأيت في محيّاه ابتسامة واحدة، كان صارماً، وكان ودوداً بآن، يحدّثني، وعيناه الثاقبتان تلوبان على عناوين جديدة لآخر ما قذفته مطابع العصر من “أبنائها”؛ حين تركني مُعتذراً بأدبٍ جمّ، عدتُ إلى صاحب المكتبة، لأسأله:

–    .. هل يزورك الأستاذ جورج كلّ يوم؟

بصدقيّةٍ باصِمَةٍ، قال:

–    بلْ قل.. إنّه يزورُ يوميّاً مكتبات حلب كافّة، حتى لا يفوته أيّ جديد من الكتب.. هو رجل متفرّد، عاشق كتب، بل قلْ “دودة كتب” لا يملّ.. كلامه قليل جداً.. محترم جدّاً.. رزين جداً، هكذا الأدباء.. أوْ فَلا!

لم أمكث طويلاً داخل المكتبة.. ألقيتُ نظرة عَجْلى، رأيت الأديب”جورج” لا يزال يعانق بباصرتيه النّافذتين عناوين الكتب، يتفحصّها، بتحرّك هادئ رصين.

مِن ذاك اللقاء الجميل العابر، سعيت لشراء كتب “سالم”، ومنها:

“فقراء الناس”، “الرّحيل”، “حكايات الظّمأ القديم”، “عزف منفرد على الكمان”، “حوار أصمّ”، وكلّها مجموعات قصصيّة، وله رواية بعنوان “في المنفى”!

حين قرأته في قصصه بتعمّقٍ، شعرتُ أنّ هاجس الموت، ربّما كان منْ أكثر موضوعاته سخونة وضرَاوة، فقد أقلقه كثيراً في حياته، وكان مجرّد التفكير فيه، يسبّب له أذىً عالياً.. لقد كان الكاتب “جورج”، صارماً مع نفسه، ولغته، وأفكاره، وحياته، وصوره القصصيّة الفنيّة، ولا أجافي الحقيقة إذا قلت: “إنّ قصصه تصلح لتعليم فنّ كتابة القصّة القصيرة، بتكنيكها وبِنائيّتها، وتكوينها الداخليّ، وسيرورتها في الزّمكانيّة”.

وتمرّ الأيام تَتْرَى.. ليصلني كما غيري، ذاك النّبأ الفاجِع:

–    “مات جورج سالم”!

لِمُحدّثي:

– كيف؟

– بجلطة دماغيّة.. توقّف قلبه.. توقّف دماغه.. توقّف عقله.. توقّف قلمه.. توقّفت عيناه الباصرتان عن متابعة الجديد من إصدارات المطابع…

قلت في سرّي “لنْ ألتقيك أيّها الكاتب الهمام مرّة ثانية بمكتبة المتنبّي في حلب”!

المكان: فندق سميراميس، بالعاصمة.. كان إلى جانبه زوجته الوحيدة التي حضرت معه من حلب إلى دمشق لوداعه، حيث كان من المقرّر أنْ تُقلع به الطائرة بساعات الفجر الأولى، إذْ كان مدعوّاً لحضور مؤتمر أدبيّ ببلدٍ أوروبيّ، هكذا قِيلَ يومها، أو هذا ما نقلَه صاحبُ الخبر، لكنّ ليل الموت كان “سطوعُه” أقوى، و”كابوسُه” أشدّ، لكنّ”السّطوع” هذه المرّة كان رماديّاً كابِياً، كما الخريف العجوز، أو كغيمةٍ دخانيّةٍ هارِبة!

حين تلقّيت الخبر الصّادم، أُصِبْتُ كغيري منْ محبّي “السالم” وأدبه، بنكسة “حزيرانيّة”على صعيد الكتابة والإبداع والتّأمّل، حزنتُ عليه حقّاً، وعلى زوجته الصابرة التي كانت “هي”، و”جورج”، و”الموت” في صراعٍ مريرٍ بغرفة الفندق.. كانت هاتِهِ الزوجة وقودَ قصصه، زيتَ كتاباته، “أيّوبَ” صبره، كانت المحرّضَ الأكبر لاشتعالات قلب وقلم وكيان هذا الأديب السوريّ الكبير… رحْتُ أقول لِمحدّثي:

–    “.. ليتني ما تعرّفتُ إلى هذا الرّجل، منْ خلال تلك الدقائق المعدودات، في حلب الشّهباء، ليتني ما اقتنيتُ كتبَه، ولا قرأت (الفقراء من الناس)، ولا تعرّفت إلى تلك الرّوح الشّفيفة العميقة.. ليتني ما أحببتُ فيه إنسانيّته الشّامخة، ولو فعلتُ ذلك مجتمعاً، لما جاء حزني عليه بمثل هذا البتّة”.

لقد كان المبدع جورج سالم – رحمه الله – أنموذجاً قصصيّاً، ليس على صعيد سورية وحسب، بل وعلى امتداد رقعة هذا الوطن الكبير..

كان أنموذجاً في القصة، وأنموذجاً في الرّواية، كما أنموذجاً للمثقّف العربيّ، الذي عَرَف أنّ مَعين الثقافة المتدفّق، لا يتأتّى للقارئ المثابر، إلّا من خلال الكتب الغنيّة، وهذا ما كانت عليه حال الرّاحل بكلّ توكيد..