دراساتصحيفة البعث

ما المقصود بالدولة العميقة؟

د. خلف المفتاح

تم في الآونة الأخيرة التركيز إعلامياً على مفهوم أو مصطلح الدولة العميقة، ولاسيما عند الحديث عن السياسة الأميركية وآلية وعناصر صنع القرار الاستراتيجي فيها، مع أن مفهوم الدولة العميقة حاصل في كل دول العالم.

وفي الحديث عن هذا الجانب، يمكننا القول أن ما يقصد بالدولة العميقة هو شبكة الأشخاص والقوى التي لها مصالحها الخاصة وامتداداتها واستطالاتها في داخل الدولة وخارجها، وتمركزها في مختلف مفاصل الدولة أو خارجها، سواء كانت مدنية أو عسكرية أو أمنية وإعلامية، بحيث يتوفر لها إمكانية أو فرصة لتوجيه وتحديد أنشطة الدولة والتأثير في قرارها السياسي بما يخدم مصالحها وأهدافها .

ومع تلك الإشارة أو التعريف المفترض يبقى مفهوم الدولة العميقة مصطلحاً فضفاضاً، ويمكن أن تكون لها كيفية معينة في كل دولة حسب نظامها السياسي وآلية اتخاذ القرار فيها والقوى النافذة في مؤسساتها. من هنا يرى عديد الباحثين في هذا الشأن أن للدولة العميقة وجهان ظاهر وخفي، ويتمثل الأول في رجالها وسياسييها ومسؤوليها الذين يحتلون مواقع في بنية الدولة أي نظامها السياسي وسلطاتهاالمختلفة كالحكومة والجيش والبرلمان والمنظمات والنقابات والإعلام والفن والرياضة وغيرها من الحساسيات القائمة. والوجه الثاني الخفي فهو ذلك الذي -وهنا النقطة الهامة -يقوم تحريك وتنشيط الأطراف المعنية في مؤسسات الدولة ومنفذي سياساتها لتنفيذ المخططات المرسومة، بمعنى أن ثمة ( حكومة ظل أو حكومة موازية ) هي الفاعل الأساسي في الدولة ودينامو حركتها وسياساتها وتوجهاتها الإستراتيجية. من هنا يمكننا القول أو الاستنتاج أن مصطلح الدولة العميقة – وهو بالمناسبة مصطلح تم تداوله إعلامياً لأول مرة في تركيا – يعبر عن ذلك التحالف القوي الذي يجمع بين ظهرانيه بنيات الدولة على اختلافها من إداري وإعلامي وعسكري واستخباراتي وقانوني ورجال اقتصاد ودين وثقافة وفن ومجتمع تجمع مصالح متنوعة اقتصادية ومالية ونفوذ واعتبار وغيرها، وانتماءات متعددة هدفها الوحيد الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها الخاصة، إضافة لاستثنائهم من أية محاسبة أو مسؤولية قضائية في حال تعرض بنية النظام السياسي لأية اهتزازات تؤدي إلى زعزعة المنظومة بكليتها، فالدولة العميقة بهذا المعنى شكل من أشكال التحالف العميق وغير المكتوب بين كل تلك القوى المشار إليها في ظل بيروقراطية الدولة ونظامها السياسي.

وقد تضطر عناصر الدولة العميقة وقواها في سبيل الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها لاستخدام العنف أو إشعال الحروب، وهذا ما يمكن ملاحظته عند الحديث عن الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية، حيث النموذج الأمثل للدولة العميقة واللوبيات الفاعلة هناك، وهي عنصر مهم وفاعل في إطار أو تحديد المفهوم، وهنا يصبح العنف أو الحرب، بل يعرف على أنه في سبيل الحفاظ على الأمن القومي أو المصالح العليا للدولة دفعاً للخطر الخارجي، بحيث تتاح الفرصة للنيل من كل القوى المعارضة أو إسكاتها تحت ذلك العنوان العريض، بحيث يضفى طابع قانوني على ذلك الاستثناء، وهنا تلعب الآلة الإعلامية التي هي عنصر من عناصر الدولة العميقة دور أساسي في تسويق المفهوم والهدف لجهة التأثير في الرأي العام سواء داخلي أو رأي عام عالمي إذا كان الحدث كبيراً أو خطيراً ذو كلفة عالية.

والحال إن الدور الذي بدأت تلعبه ما سمي الدولة العميقة، ولاسيما في تحديد سياسات القوى الكبرى دور كبير وخطير لجهة أنه أصبح دور عابر للحدود، وينسج قرارات وسياسيات غدت عابرة للحدود بحكم الترابط بين المصالح للشركات العابرة للقوميات والحدود ومتعددة الجنسيات، في ظل العولمة الاقتصادية والإعلامية، ومراكز المال، بحيث أصبح يطرح مفهوم الحكومة العالمية، وليس الدولة العميقة بمفهومها الوطني أو القومي الضيق.