ثقافةصحيفة البعث

طالب هماش: في كل قصيدة سر لا يفسر وسحر لا ينتهي

حمص ـ عبد الحكيم مرزوق

للشاعر طالب هماش مجموعة من الدواوين الشعرية منها “نبوءة الثلج والنيل”، و”آخر أسراب العصافير”، و”راهبة القمح الحمامة”، و”كأني أمومة هذي الحياة”.

وفي حوارنا معه، تحدث عن البدايات ومسائل تتعلق بتوظيف الطبيعة في شعره والموروث الشعري، يقول: “من الصغر شدني شعور غامض إلى العزلة والابتعاد  والانسحاب إلى بيت الطبيعة فكنت ألوذ بصخور الوعر المنحوتة كالرهبان حيث يشتد هبوب الريح إلى أن يتحول إلى جوقة من التنهدات والتناويح، أو كنت أضيّع نفسي بين حقول القمح الشاسعة، مستمعاً إلى ذلك الحفيف الأخاذ والرخيم وكان يسحرني رؤية بلبل يقف على ساق سنبلة أو قبّرة تتموج في طيرانها فوق الحفافي، أما ما غرس في نفسي الإحساس بالموسيقى الشعرية فهو خرير الماء النهريّ فأنا أنتمي إلى الناس النهريين وفي وسط هذه الجوقة من الأحاسيس بدأت تتلامس أصواتها الخفية في لغتي الطفولية حتى راحت تولد العبارات من تلقاء نفسها وكأنها استجابة لذلك النداء الذي يتصادى في أقاصي الأعماق، متناغماً مع عالم الأصوات المترقرقة في كل مكان من حولي، لكني حقيقة تأخرت في نشر نتاجي لأسباب متعددة أهمها ابتعادي عن أجواء المدينة وأول مجموعة نشرتها كان من قرائها  الراحل ممدوح عدوان الذي شجعني كثيراً برأيه فيها”.

وعن توظيف الطبيعة بين الحقيقة والخيال، يقول هماش: “يغريني التواصل مع الطبيعة وكأنها كوخ دافئ تلوذ إليه في لحظات البرد أو فرجة نهريّة تصفي ماء العين، لكن اللقطة التي تمنحك إياها يجب أن تكون محملة بإحساس صوفي شفاف ومترع بالوجد، فالتواصل معها هو تواصل مع إحساس كوني تتلألأ ألوانه للمتبصر بالتأمل المنتبه، ذاك أنه يفتح الباب على سر رائع  يعز على الوصف، يكفي أن تنظر إلى مساحة النجوم البعيدة حتى تضيّع نفسك وتقترب من روحانيتك الدفينة في الأعماق القصية وتهتز أوتار فرحك الداخلي شاعراً بروحانية شفافة تعود بك إلى عشّ الكينونة الدافئ حيث كل ما في الكون حفيف وهديل.. إن إسكات ثرثرة الذهن نعمة لمن يستطيعها ونقمة لمن يقع فريسة لها، والطبيعة تعيدنا إلى ما قبل الفكر الى عالم الأحاسيس الفردوسية، فأنا أدرب نفسي على سماع أصوات الطيور في مشاويري المسائية كل يوم، بهدف السماح للإحساس الصوفي بالتسرب إلى نفسي  حيث تكمن أقدم موسيقى في الطبيعة هناك في عالم من الزقزقة، علينا فقط الإصغاء وجعل متعة الاستماع إلى موسيقى اللغة التي تتقافز حروفها  وتجري سيالة كشلال من الأسرار الصوتية التي تترقرق مجازاتها الموسيقية في مجرى البيت الشعري، وعلى المخيلة فتح شاشتها البيضاء على المشهد من زاوية الشعر أو شباكه المطل على جمال الطبيعة في براءتها الأولى”.

ويضيف هماش: “أما استفادتي من الطبيعة فكانت في تمثلها وليس في تصويرها، فأنا لا أتحدث عن شجرة الحور إلا إذا شاركتني بحفيفها عالم الجراح المنداح، ولا أتعطش إلى رؤية الحفافي إلا لأحلم بالطيران فوق أدراجها ولا أقف على التل إلا لأسبح بناظري فوق سكينة السهول المنسابة، إن اكتشاف جمالية الطبيعة لا يأتي إلا من قدرتك على سماع رنين أغاني النهر من بعيد وتذوق موسيقى الريح في عائلة الأشجار والاستماع إلى حفيفها الشجي فالأشجار كما يقال ليست سوى أمهات مشغولات بهدهدة المئات من المهود المهتزة مع الريح، وعلى الشاعر الاستماع إلى الريح حين لا يكون هناك ريح، حين تكون مختبئة في أعشاش الشجن، وحين تتفاعل هذه العوالم في ذات الشاعر ستتموسق تلقائياً في سبكه الشعري، ذاك أن الشاعر ليس سوى كتلة من المشاعر المعتصرة من هبوب الريح وترقرق الماء  وسعادة السهول والتلال ووشوشة الأشجار، إنه مؤلف من مائة عنصر من الطبيعة في حالة براءتها الأولى”.

وحول توظيف الموروث والتراث الشعبي في شعره، يتحدث هماش: “الموروث هو روح الشعب المقطرة والمنحلّة في كأس الحاضر كالإكسير وعبر مئات السنين فلا أغنية تستمر أو قصيدة أو رقصة إلا لأنها تحمل في طياتها مكنون هذه الروح وتعبيراتها السحرية وتوظيف الموروث برؤية فنية جديدة يتيح للشاعر استقطار المعاني الخلب والتصادي الإبداعي مع إيقاعاتها الصوتية الآتية من منطقة  البدايات التي افتقدنا ظهورها للأسف، وخصوصاً في الشعر الذي انصرف إلى التغريب أو التقليد في كثير من أمثلته المعاصرة، الروح التي هزّتها المواجيد وأثختها الجراح وأفرحتها الأعراس الموسمية على الرغم من ضنك العيش كانت تعيش في أحضان الطبيعة الأم، كانت على تواصل مع روائح الطيّون والرمان في الخريف ترقرق المزاريب في الشتاء وانتحاب الريح الشتائية على الشجر العاري وفوحان الراوئح الطاهرة في مرابع الربيع ورائحة القمح.. كان القروي قديماً يستطيع عندما يشم رائحة الريح معرفة أن المطر القادم، وكانت الناي آلته الأثيرة إلى قلبه خصوصاً حين ينفخ من أعماقه ـ من روحه – في ثقوبها ليعبر عن اللوعة والشجن، دائراً بالأنغام والـتأوهات الطويلة حول سؤال الوجود البعيد ومعبرة عن قسوة الحياة  وحيرتها، وعلى الشاعر أن يعتصر هذه الروح في أنغام وإيقاعات جديدة.