عودة ترامب والترامبية السياسية
د خلف المفتاح
بعد ماراثون سياسي امتد لعدة شهور، إن لم نقل سنوات، أعيد انتخاب المترشح للرئاسة والرئيس السابق دونالد ترامب مرة أخرى بعد فترة اعتبرها هو استراحة محارب. وبعودته للبيت الأبيض، يعاد طرح العديد من الملفات والسياسات التي جمدت خلال السنوات الأربع الماضية، سيما وأنه عاد للبيت الأبيض متسلحاً بكونغرس أميركي يسيطر عليه بمجلسيه الشيوخ والنواب الجمهوريون، ما يعني أن الرئيس ترامب سيمرر قراراته وسياساته الداخلية والخارجية بسلاسة وبدون أية معارضة أو عرقلة دستورية.
من هنا تأتي أهمية تسليط الضوء على هذا الحدث وانعكاساته على المشهد الدولي، لجهة حجم التأثير الأميركي في السياسة العالمية ومشهديتها، فالترامبية بوصفها ظاهرة سياسية تسعى لإبقاء أميركا القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى على مستوى العالم من خلال شعار “أميركا أولاً” لأن من يحدد السياسات الأميركية هو ساكن البيت الأبيض، وهو الذي يجب أن يستفرد بسياساتها وقراراتها الكبرى وخياراتها الإستراتيجية، فلا ضرورة لتوازن في القوى التي تدير دفة السياسة الأميركية التي تتوزع بين البيت الأبيض والبنتاغون والكونغرس بمجلسيه، والمخابرات المركزية الأميركية، والمجمع الصناعي والمالي الأميركي، ناهيك عن الفلسفة السياسية الأميركية التي يمثلها المحافظون الجدد ( الشتراوسيون ) كحكومة عميقة.
ومع ذلك كله بدا الرئيس الأميركي السابق ترامب غير آبه في خياراته السياسية بكل تلك الكتل، ومراكز القوى الفاعلة التي شكلت خلال أكثر من سبعة عقود “ميكانيزم” السياسة الأميركية رغم تداول السلطة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وإذا كان السؤال لماذا تصرف الرئيس السابق ترامب بهذه الطريقة التي فيها خروجاً عن المألوف، فثمة أسباب عديدة تقف وراء ذلك منها أنها جاء من خارج حلبة السياسة، ومن عالم رجال الأعمال الذي يشكل المال لديه الهدف الأساسي الذي يتقدم على الأهداف الأخرى، انطلاقاً من القناعة أن أميركا شركة عملاقة، وأن قوتها الأساسية ناتجة عن فائض قوتها الاقتصادية، وسلاحها الأساسي هو الدولار بوصفه العملة الدولية القابلة للتحويل على مستوى العالم، إذا علمنا أن أكبر خمسمائة شركة في العالم هي شركات أميركية تشكل موجوداتها وأصولها أكثر من ستين بالمائة من الناتج الإجمالي العالمي، إضافة إلى أن الرئيس ترامب نفسه من أكبر المستثمرين في القطاع المالي الأميركي والعالمي ما مكنه من تشكيل شبكة علاقات مالية عالمية بعضها منظور، وبعضها الآخر يعمل بسرية. ولعله ليس من قبيل الأسرار أن الرئيس ترامب يملك أكثر أسهم شبكة “تويتر” العالمية ما جعله يطلق تصريحاته عبرها ما يحقق لها أرباحاً هائلة تقدر بعشرات المليارات سنوياً، الأمر الذي أثار حفيظة المؤسسات الإعلامية الشهيرة، وهجومها المستمر على سياساته واتهامه لها بالكذب والتضليل في غير مرة.
إن ما يدفع للحديث عن الترامبية هو العناوين التالية:
١- إن الرئيس السابق والمرشح اللاحق للرئاسة عمل منذ وصوله لسدة البيت الأبيض إلى جعل السياسة خادمة للاقتصاد، فبدأ بفرض الرسوم على الواردات من الدول الشريكة للولايات المتحدة الأميركية، وعلى رأسها جمهورية الصين الشعبية، أكبر شريك تجاري لها، حيث تشكل صادرات الصين للولايات المتحدة حوالي عشرين بالمائة من مجمل صادراتها، ناهيك عن أن الصين تحوز على ما قيمته أكثر من تريليون ونصف مليار من سندات الخزينة الأميركية.
٢- ربط الرئيس ترامب المظلة النووية والعسكرية الأميركية لكل من أوروبا ودول جنوب شرق آسيا بدفع التكلفة المالية، وهو ما دفع بحكومات تلك الدول للانصياع لذلك ولاسيما ألمانيا واليابان وكورية الجنوبية، إضافة إلى مطالبته لبعض الدول ما يمكن تسميته “خوة” مقابل ما ادعاه الحماية العسكرية لها، الأمر الذي وفر للخزانة الأميركية مئات المليارات من الدولارات، وتعامل مع كثير من الدول على طريقة بلاك ووتر “الحماية مقابل المال” .
٣-كسر القاعدة الأساسية لفكرة العولمة، وهي فكرة أميركية، فعمل بالحمائية، وفرض الضرائب على المستوردات بدل الأسواق المفتوحة، ووضع قيوداً على الهجرة، علماً أن الفكرة الأميركية تقوم أساساً على مفهوم الهجرة والبحث عن عالم بلا حدود وتمثال الحرية.
٤- انه أول رئيس أميركي ينفذ كل وعوده الانتخابية للصهاينة، فاعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وضم الجولان العربي السوري بما يخالف كل القرارات الدولية، وانسحب من اتفاقية المناخ ضارباً عرض الحائط بالإرادة الدولية، وانسحب من اليونسكو، وكذلك من الاتفاقية النووية الموقعة مع إيران والدول الست الأخرى استجابة للرغبات الصهيونية واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأميركية .
٥-إنه أول رئيس أميركي يزور كورية الديمقراطية ويقابل رئيسها، ويعلن عن إمكانية تطبيع العلاقات معها إن تخلت عن برنامجها النووي في سعي واضح منه لمحاصرة الصين الشعبية التي يرى فيها المنافس الاقتصادي الأول للولايات المتحدة الأميركية خلال السنوات العشر القادمة.
٦- يعتبر الرئيس ترامب أول رئيس أميركي يهاجم الصحافة والإعلام وأجهزة المخابرات ووزارة الدفاع البنتاغون في كل مرة لا تستجيب لرغباته، وأنه يعتمد في قراراته على المقربين منه لا مستشاريه. وعلى الرغم من أنه من مجتمع رجال الأعمال إلا أن قاعدته شعبوية، إضافة إلى أنه يمثل تياراً انجيلياً قوياً يزيد تعداده على ثمانين مليوناً.
إن كل ما تمت الإشارة إليه من عناصر تجعل من الحديث عن الترامبية حالة ستتحول إلى ظاهرة سياسية، خاصة بعد فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم الخامس من تشرين الثاني، ما يعني أن العالم سيكون أمام مقاربة أمريكية جديدة لملفات ساخنة عديدة في منطقة الشرق الأوسط، حيث العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان وفلسطين ودولاً أخرى وبشراكة ودعم أمريكي، إضافة للحرب في أوكرانيا والسودان، والمنافسة التي قد تتحول إلى ساخنة في جنوب شرق آسيا مع الصين الشعبية، إضافة إلى ما يجري في سورية من إرهاب ممول ومدعوم من قوى خارجية وأجندات تفكيكية لدول المنطقة تنخرط فيها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لا يرى الرئيس المنتخب وفق رؤيته لمحركات السياسية الأمريكية مصلحة أو ربحاً فيها، ولاسيما مشروع “قسد” في الجزيرة السورية، حيث أبدى في ولايته السابقة الرغبة في سحب القوات الأمريكية من سورية، وتم تعطيله من قبل البنتاغون وقوى أخرى. ومع عودة ترامب للبيت الأبيض يتم الحديث في واشنطن عن إمكانية سحب القوات الأميركية من سورية ما يعني زوال المظلة الحمائية الأمريكية عن “قسد” ما يجعلها تعيد حساباتها مع دمشق وتغادر أوهامها الانفصالية، وتنخرط في المشروع الوطني للتعافي، أو تواجه مصيرها وتدفع ثمن رهاناتها الخاسرة .
والحال، إن وجود رئيس أميركي يقرأ على أنه ( من خارج الصندوق) قد يمثل فرصة لكي تعيد أميركا قراءتها للمشهد الدولي، وتغادر عقلية الهيمنة عبر معطى القوة إلى انتهاج سياسة المصالح المشتركة مع دول العالم، واستبدال سياسة الفوضى الخلاقة التي ثبت فشلها وانعكاساتها السلبية على دول العالم بما فيها أمريكا ذاتها وباعتراف ترامب نفسه، بسياسة الاستقرار البناء التي تنتهجها كل من الصين وروسيا ودول أخرى كثيرة وفاعلة في المشهد الدولي، فهل يعي الأمريكيون وساستهم ويتصالحون مع الواقع، أم أن العقل الباطني الأمريكي المهيمن سيبقى هو المسيطر؟