الأديب المقاوم ودوره في مواجهة العدوان
هويدا محمد مصطفى
للأدباء والكتّاب دور مهمّ وفعّال في الدفاع عن مجتمعاتهم وبلدانهم ضد العدوان الإسرائيلي، من خلال مواجهته بالكلمة التي تعدّ بمنزلة الرصاصة في أرض المعركة، فدور الكاتب لا يقلّ مسؤولية عن الأدوار الأخرى في التصدي للأعمال الإجرامية من خلال الشعر أو القصة أو الرواية، وهذا ما يترجمه الكاتب من خلال ما نشاهده الآن من حرب ودمار في فلسطين ولبنان، ولأهمية دور الكاتب المقاوم أجرينا هذا الاستطلاع.
للملتزم المقاوم دور بكلمته التي تعدّ سلاحه، هكذا كان رأي الشاعر صالح هواري الذي يقول: “للأديب الملتزم المقاوم دوره الفاعل للتصدي ومواجهة العدوان وكلمته الحقيقية هي سلاحه الذي يدافع فيه عن حقوق الإنسان وقضاياه المصيرية العادلة، وبما أن زهرة الحرية في كلّ العالم واحدة تحمل العطر نفسه والألوان نفسها، فأول المدافعين عنها هم عشاقها الأحرار، والأديب المقاوم واحد من هؤلاء يتنكب للتصدي لأعداء الحرية تماماً كما يتصدى المقاتل ببندقيته في المعركة، والكلمة الملتزمة هي الكاشف الحقيقي عما يراه الأديب من المظالم والاعتداءات والجرائم التي تلحق بالمضطهدين من الشعوب. ويتابع حديثه، هؤلاء المضطهدون يفتقرون إلى وسائل للتعبير عن معاناتهم لينقلوها صوراً جلية واضحة إلى العالم، ولكوننا في زمن الحرب الدموية ضد الشعوب المظلومة كما في فلسطين وفي لبنان وفي أغلب بلاد العالم هذه فلسطين التي اغتصبها الصهاينة ظلماً وعدواناً، فيجب على الكاتب الملتزم في هذا الخضم من الجرائم التي يمارسها الصهاينة المعتدون، على هذا الكاتب الأديب المقاوم أن ينشب قلمه ليكشف الحقائق ويوثق الجرائم الإسرائيلية التي تحوّلت إلى حرب إبادة أمام أعين العالم المقموع من قبل الدول الاستعمارية، وكما رأينا من خلال الحرب على غزة المناضلة وعلى لبنان الشقيقة المقاتلة فإن كيان العدو تستهدف الإعلاميين والصحفيين أيضاً لأنهم مثل المقاتلين بالنسبة إليهم، بل هم أشدّ خطراً عليهم لأنهم يقومون بفضح أساليبهم الإجرامية وهذا ما حدث فعلاً، فإلى جانب قتلهم للأطفال والشيوخ والنساء قتلوا كلّ من يحاول فضح جرائمهم ولكن كلمة الحق لن تقتلها رصاصة المعتدي لأنها الضوء الذي يولد من رحم الحقيقة”.
ويضيف الشاعر فرحان الخطيب: “كانت كلمة واحدة من حنجرة امرأة طالها الضيم والأسى “وامعتصماه” كافية وكفيلة بإشعال النخوة في صدر المعتصم ورجاله الغرّ الميامين، وليهدر أبو تمام في قصيدته “فتح عمورية”:
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
وكان قبل ذلك الشعر الفخر بكل انتصار يسجله أجدادنا العرب على الغزاة والطغاة، وتمرأت صورة النضال والكفاح في الشعر العربي في مقارعة الاحتلال العثماني والفرنسي والبريطاني والإيطالي، وسمّى الشعراء الأفعال بمسمياتها كقول اليازجي:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب
فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
وهذا أمير الشعراء أحمد شوقي يجعل من رفات عمر المختار رمزاً لاستنهاض الهمم العروبية العزيزة النفس والوجدان على مرّ العصور:
ركزوا رفاتك بالرمال لواء
يستنهض الوادي صباح مساء
وهذا الشاعر القروي العروبي الأصيل يعلو صداحه من المهجر ليحي كفاح السوريين ضد الاستعمار الفرنسي:
فيالك أطرشا لما دعينا
لثأرٍ كنت أسمعنا جميعا
وهذا شاعر آخر يشيد بالرصاصة الأولى التي أطلقها الشيخ صالح العلي في وجه الغزاة الفرنسيين حين وضعوا أقدامهم على الشاطئ السوري:
هنا يا العلي الدنى زغردت
لأن كنت ذا صولة قادرة
هنا يا العلي النساء ارتدت
وشاحا من النصر في الذاكرة
ولأن قدرنا في هذا الشرق أن نكون دائماً على فوهة بركان، وأن نكون مستعدّين لصدّ الغزاة الطامعين في أرضنا وخيراتنا، كان لا بدّ من أن تكون الكلمة الشاعرة وفي كل فنون الأدب توءم الرصاصة في إظهار الحق واسترداده من الغاصبين، وما إن زُرع الكيان في قلب جسدنا العربي فلسطين حتى كان للكلمة صداها الأعلى والأسمى من خلال الأدب الملتزم والمقاوم الذي ندّ عنه أبلغ الكلم، وأعلى شواهق البلاغة على امتداد ساحات العالم الحر، في قصائد درويش والقاسم وزياد وهواري وغيرهم كثر، وفي سرديات كنفاني وجاد الحق وحميد وعددهم لا يحصى، وما دام الاحتلال قائماً، سيبقى للكلمة المبدعة المقاومة حضورها وصداها ليس في الوقت الحاضر فحسب، بل ستخلد للأجيال اللاحقة مواسم النصر المجبول بدماء الكماة الصناديد من أبناء هذه الأمة، والتي وإن كبت أفراسها في ميادين القتال وسوح الوغى، كما الآن، ولا بدّ لها من النهوض وحمل بيارق النصر خفاقة ما بين صليل السيوف وعوالي الرماح لتعلن عن أن أمة مجيدة نبضها العروبة، وتاريخها حضارة وفخار، لا ولن تموت، ما دامت الأمهات نجابة للرجال الرجال، ستظل ما بقي المدى وقّادَها”.
ومن بذرة الثقافة تولد المقاومة، هكذا ترى الشاعرة نجوى رحمون: “فإما المقاومة العربية وإما الرضوخ لأميركا، وإنّي أرى أنّ المقاومة ضرورية في هذا العصر عصر الصفيح والطائرة والصاروخ بالاستعلاء والاستيلاء على حقوق الشعوب، وعلى المقاومة بناء قدرتها بوعي وحكمة من كل أطياف الشعب العربي، فلا فارق بين مسيحي ومسلم، بل الإنسان الذي يؤمن بشرعية المقاومة وأهدافها، لتصبح النحن مقابل الآخر، بأناه المتضخمة حقداً وطمعاً وغطرسة، وعلى المقاومة التصدّي بمخزونها الثقافي النضالي والمعرفي بحيث تكون قادرة على الصمود، ونزع حريتها بيدها لأن الحرية تؤخذ ولا تعطى، فحرية الشعوب ليس هبة من الآخرين توزّع يميناً أو شمالاً، وعلى المقاومة الدفاع عن أرضها السليبة المهدورة بين براثن الطغاة بالحفاظ على كرامة شعبها بالجهاد”.
بالإضافة إلى ذلك، برز كتّاب وأدباء وشعراء عرب عدة في الإضاءة على ما يقوم فيه كيان العدو الصهيوني من قمع وتهجير وتعقيداته من زمن بعيد ١٩٤٨، فأجاد الشاعر محمود درويش في وصف صمود الشعب الفلسطيني ودعوته إلى التضامن الدولي ومن قصائده “سجّل أنا عربي”، ووضع الكاتب غسان كنفاني مشروعاً تحت تسمية أدب المقاومة ونادى بالحرية الاستقلال من نير الاحتلال، وعلى الرغم من الحصار الثقافي الذي عاناه الشعب الفلسطيني والأدباء سُلّط الضوء على المقاومة من أجل نيل الحرية.
في حين يرى الشاعر منذر عيسى رئيس فرع اتحاد الكتّاب في طرطوس أن الأدباء والكتاب هم الأكثر تأثراً بقوله: “نتيجة صراع المصالح بين الدول، كثيراً ما يقوم الأقوى بالاعتداء على البلد الذي يهدف إلى تحقيق مكاسب خاصة، في كثير من الأحيان لحرف مواقفها، أو إخضاعها لمشيئتها، وقد يكون من نتيجة ذلك وفي غياب العدالة والقانون الدولي، حصول دمار وقتل وإراقة دماء، والأدباء والكتاب هم الأكثر تأثراً بما يقع من ظلم على مجتمعاتهم وبلدانهم وينقسمون كما حصل في الحرب الظالمة على سورية إلى من يقف في صف شعبه ودولته، وقسم آخر يقع تحت تأثير الإغراءات المادية والمال الخارجي، يقفون ضد الدولة والشعب، وهذه خيانة سافرة، وقسم ثالث يقف في المنطقة الرمادية منتظراً ما تؤول إليه الأمور، وهذا موقف سلبي واضح، في حالة الصراع العربي الصهيوني، وسياسة التدمير الشامل والتهجير الممنهج وقتل الأطفال، والنساء الذي يشهده العالم على شاشات التلفزيون، تضامنت الشعوب وتخاذلت الحكومات، بل عدّت ذلك من حق الكيان الغاصب للدفاع عن نفسه، في هذه الحالة لا بدّ من دور واضح للأديب والكاتب، والوقوف مع مجتمعه ضد العدوان، وهناك مجموعة فرعية من الإنتاج الأدبي معروف عالمياً والذي يعرف بأنه نشاط اجتماعي سياسي، ضد العدوان والفكر السائد، وأدب المقاومة ظاهرة عالمية ليس فقط في الأدب العربي وهو يهدف إلى منح الأمل، وإمكانية إزالة الظلم والقهر، وهذا ما يؤكد قوة الكلمة، والدعوة إلى التغيير، وتحدي القمع، والحفاظ على الذاكرة الجماعية، وهو أداة فعالة للتعبير عن المظالم، واستعادة الهوية، ويقوم بحشد الدعم لحركات المقاومة ودعم القضايا العدالة، كذلك يقوم الكاتب أو الأديب من خلال ما يكتب بتعزيز قضية العدالة ودفع الظلم والاضطهاد ومن خلال ما يبدعه من شعر ورواية ومقالة، وتسليط الضوء على الحقائق القاسية للقمع، وكذلك تضخيم أصوات المظلومين، نسترجع هنا دور الأدب في حركة المقاومة الفلسطينية ويظهر بشكل قوي كشكل من أشكال مقاومة التهجير، والقتل، والدعوة للصمود، وقد لعب اتحاد الكتاب العرب في سورية دوراً في مقاومة الاحتلال الصهيوني ومكافحة التطبيع، كما ظهر دور مميز لأدباء سورية في التصدي للحرب الهمجية الظالمة التي شنّت على سورية وأدت إلى الكثير من الشهداء وكذلك ما تتعرض له غزة، وجنوب لبنان من تدمير ممنهج، فجاءت الأعمال الأدبية وخصوصاً القصة والرواية لتسليط الضوء على جرائم العصابات المسلحة، وممارستها من قتل، وتدمير والتأكيد على وحدة التراب السوري، وقدسية دماء الشهداء، وفي النهاية لا بدّ من التذكير بدور القلم والكلمة في كل حركات المقاومة، والتي تشكل عامل تشجيع وتحفيز على مجابهة الظلم والأفكار الهدامة والسلاح الفتاك، ويتحمّل الأدباء مسؤولية كبيرة في هذه المرحلة، وكل المراحل التي يتعرض فيها الوطن للخطر”.
بدورها، تقول الشاعرة زوات حمدو: “منذ بدء الخليقة للكلمة أهمية كبيرة في معركة المواجهة، الوعي وأرقى أنواع الأدب وأكثرها خلوداً تلك التي تسطّرها مقاومة أبنائها مرتبطة بالحسّ الوطني والإنساني وثقافة المبدع التي تعبق برائحة الوطن وعطر ترابه لتكون كلماته عابقة لائقة بشذى الوطن، وخاصة إذا اجتمعت الصورة والكلمة والمشهد بالثقافة الجمالية والتربوية والفكرية والثقافية والدينية، والمقاومة في الأدب والفكر واللغة تمتلك القدرة الهائلة على تفكيك الحدود السياسية والفكرية والعلمية والدينية والثقافية والأديب يكون مع كل عناصر الحياة في خندق نضالي واحد مع الأنبياء والشهداء ليستمدّ قوته من ذواتهم وتتكامل معهم كالجسد الواحد ليرتقي بالأهداف والرسالة الثقافية السامية التي تمتد جسورها بين الكلمة والإنسان والحياة ومواصلة الجهود في سبيل الحفاظ على الهوية الوطنية والفكرية، وأن نبني أجيالاً تنتمي إلى الفكر الوطني والعروبي والقومي، وأن تكون مدركة لخطورة المؤامرات التي تحاك ضد الشعوب وتنمية العملية التربوية والوطنية، وأن ننمي لديهم ثقافة الانتماء والوطن والثبات على القيم العليا والمبادئ السامية والأخلاق الحميدة.”