دراساتصحيفة البعث

هكذا وظف الإعلام الغربي حادثة أمستردام!

هيفاء علي

الادّعاءات الإعلامية الغربية بشأن ما يُسمّى “المذابح المعادية للسامية” ضد أنصار “إسرائيل” في أمستردام هي الأحدث في سلسلة الافتراءات التي تغذي العنف ضد العرب والمسلمين، وتحاول تبرير الإبادة الجماعية المتواصلة في غزة ولبنان.

“في ليلة 7 تشرين الثاني الجاري، ورد في وسائل الإعلام الغربية أن مذبحة معادية لليهود وقعت في أمستردام، عندما خرج شباب هولنديون مغاربة على دراجات نارية إلى الشوارع لمهاجمة مشجعي كرة القدم اليهود الإسرائيليين”.

هذه هي القصة التي يتمّ الترويج لها في غرف الأخبار الغربية ومن قبل الزعماء الأميركيين والأوروبيين، مع استمرار ارتكاب مجازر الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة دون أي محاسبة دولية ودون أي رادع أخلاقي أو قانوني.

وسرعان ما هبّ الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، جو بايدن إلى إصدار بيان يدعو فيه إلى محاربة هؤلاء المعتدين، بينما وعد رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف بملاحقه مرتكبي هذه الأفعال ومحاكمتهم، أما رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين فرأت أن “معاداة السامية” ليس لها مكان على الإطلاق في أوروبا، من جهته رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو أشار إلى أن “الأخبار الواردة من أمستردام مروعة، هذه لحظة مظلمة لعالمنا، لحظة شهدناها بالفعل”، وأعربت عناوين الصحف الأمريكية عن قلق مماثل: “الهجمات العنيفة في أمستردام مرتبطة بمعاداة السامية- الشباب على الدراجات البخارية يطاردون اليهود في أمستردام”.

كل ما تقدّم هو رواية غربية بامتياز، ولكن الحقيقة أنه في 5 تشرين الثاني توجه المئات من مشجّعي فريق “مكابي تل أبيب” برفقة عملاء الموساد إلى المدينة لمشاهدة مباراة ضد نادي “أياكس”، وفي الأيام السابقة، أفادت تقارير بأن الجماعات المؤيدة للفلسطينيين تخطّط لتنظيم مظاهرة كبيرة خارج الملعب للاحتجاج على وجود فريق كرة القدم الإسرائيلي، وفي اليومين السابقين للمباراة أبلغ المشجعون الإسرائيليون عن العديد من حوادث العنف والترهيب، بما في ذلك الهتافات المعادية للعرب، ومهاجمة سائقي سيارات الأجرة، وتمزيق الأعلام الفلسطينية، والهجوم على المنازل التي تعرض صوراً فلسطينية، حيث تشير مقاطع الفيديو وشهادات سكان أمستردام إلى أن أعمال العنف الأولية جاءت من مشجعي “مكابي تل أبيب”.

وعلى الرغم من هذه الصور وشهادات سكان أمستردام، فإن التغطية الإعلامية في وسائل الإعلام الغربية، وخاصة في الولايات المتحدة لم تتمكّن من وضع الهجمات المضادة ضد الغوغاء الإسرائيليين المناهضين للعرب في سياقها الصحيح، فعندما يتمّ ذكر تصرفات مشجعي “مكابي”، فإن السياق النقدي للعنف والهتافات ضد العرب هو مجرد تفصيل إضافي لأساس العنف المضاد، كما تمّ التقليل من أهمية سياق العنف والعنصرية ضد العرب، مع استخدام لغة مخفّفة للغاية لوصفه.

وفيما يلي مقتطف توضيحي من تقرير “رويترز” عن حادثة أمستردام: “وأظهرت مقاطع الفيديو المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي شرطة مكافحة الشغب أثناء عملها، بينما كان بعض المهاجمين يهتفون بإهانات معادية “لإسرائيل” وأظهرت اللقطات أيضاً مشجعي مكابي تل أبيب وهم يردّدون شعارات معادية للعرب قبل مباراة ليلة الخميس”.

ثم هناك تقرير القناة الرابعة الذي يوضح التلاعب السردي الخبيث: “يبدأ الفيلم بلقطات لأشخاص ملفوفين بالأعلام الفلسطينية، ويسيرون في شوارع أمستردام، مع تعليق صوتي يتحدث عن العنف الصادم، وكيف طارد رجال على دراجات نارية إسرائيليين لضربهم”.

وعلى الفور يبثّ التقرير صوراً لإسرائيليين يتمّ اعتقالهم بشكل عشوائي وضربهم في الشوارع، ثم ينتقل إلى رئيس الوزراء الهولندي لإدانة هذه الأعمال.

التقرير الذي تمّ تقديمه بهذه الطريقة صادم، لأنه في البداية يقول إن مشجعي كرة القدم اليهود الإسرائيليين تعرّضوا “للمطاردة” والهجوم في الشارع من قبل مثيري الشغب المؤيدين للفلسطينيين، وبعد مرور أكثر من دقيقة بقليل على التقرير الذي يستغرق ثلاث دقائق، انتقل إلى السياق النقدي: 36 ساعة من العنف والإهانات والهتافات العنصرية من مشجعي “مكابي”، ويقضي التقرير حوالي 40 ثانية للإجابة على هذا السؤال، قبل أن يعود إلى تعريف الحادثة بأنها معادية للسامية”.

وتجاهل التقرير ذكر أن مشجعي مكابي لديهم تاريخ من العنصرية المعادية للعرب والفلسطينيين، والمعاناة الراهنة للعرب والمسلمين الذين تتمّ إبادتهم في بيوتهم ومستشفياتهم ومدارسهم وخيامهم على أيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي، وركزت ملاحظته الأخيرة على الذاكرة التاريخية لليهود الذين “تمّ مطاردتهم وملاحقتهم في الشوارع”.

تجدرُ الإشارة إلى أن قناة “سكاي نيوز” نشرت وحذفت تقريراً مصوراً حول تحريض وعنف الغوغاء الإسرائيليين العنصريين، لتعيد نشره لاحقاً لتلفيق القصة في الوقت الحقيقي لتناسب رواية محدّدة، على الرغم من كل الأدلة المتاحة، وهكذا أظهر قليل من الأشياء بكل شفافية وبشكل صادم تواطؤ وسائل الإعلام المتعمد في الإبادة الجماعية للفلسطينيين.

إن تغطية الأحداث في أمستردام تكشف النقاب عن حقيقة واضحة، فهي تخدم كأداة بلاغية لتبرير العنف ضد العرب والمسلمين، سواء في غزة أو في لبنان أو شوارع أوروبا. وكل رواية، سواء كانت تركز على 7 تشرين الأول أو 7 تشرين الثاني، تضع دائماً المعاناة اليهودية والصدمة التاريخية في المركز الأول، وبالتالي تعزّز فكرة حق اليهود في العنف.

إن أي تصوير للإسرائيليين أو الصهاينة اليهود كمعتدين يهدّد بتعطيل هذا الاحتكار الذي يتمّ الحفاظ عليه بعناية للمعاناة، وفي حالة أمستردام فإن التأطير الإعلامي والعناوين المثيرة تعمل على تعزيز صورة الإسرائيلي باعتباره ضحية، محاصراً بحشد من الغوغاء العرب الغاضبين الذين “يطاردون اليهود” في الشوارع.

هذا التأطير، المباشر وغير المباشر، يردّد أصداء الدعاية الإسرائيلية والصهيونية التي تعتمد على معاداة السامية الملفقة والاستعارات العنصرية الطويلة الأمد حول العرب والمسلمين، فهو يديم رواية الضحية الأبدية التي يتمّ التلويح بها لتبرير الإبادة المستمرة لـ 2.2 مليون فلسطيني.

هكذا يشرع الإعلام الغربي العنف الأميركي والأوروبي والإسرائيلي ضد العرب والمسلمين، وهؤلاء الغربيون يشجعون استئصال الفلسطينيين على يد “إسرائيل” بدعم من الولايات المتحدة، وقد أدّى ذلك إلى تلفيق قصص حول مراكز القيادة أسفل المستشفيات، وتورط الأونروا في أحداث 7 أيلول، واعتبار الصحفيين “إرهابيين”.

من هنا تعدّ تغطية الهجمات المضادة المناهضة للعنصرية في أمستردام مثالاً واضحاً على ذلك، ففي اليوم نفسه الذي سارع فيه القادة الغربيون إلى إدانة مذبحة غير موجودة ضد اليهود، أصدر مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تقريراً يشير إلى أن 70٪ من الضحايا في غزة هم من النساء والأطفال. وعليه، فإن الافتقار إلى الإدانة والسخط، أو حتى الاعتراف البسيط من جانب الزعماء الغربيين وغرف الأخبار، الذين يتحمّلون المسؤولية عن الـ 70%، يفسّر إدانة “المذبحة” التي لم تحدث على الإطلاق.