حاسّة الطفولة.. حاسّة الشّغف..
وجيه حسن
في البدء، من الصّعب على أيٍّ من الكائنات البشريّة – أنّى وُجِد – أنْ يقوم بتدريب قلبه على “ثقافة الحنين”، إذا لم يحمل في شِغافِه النّابض وطناً دونما تقسيم أو تحجيم أو تدمير أو تهتّك أو فساد! إذا لم يحمل بيتاً أو سفحاً أو بحراً أو جبلاً، أو صراخ طفلٍ بائسٍ وَجِيع، أو ألَمَ أمٍّ ثكلى، أو قهْر أبٍ مفجوع، أو أيّاً من ينابيع الأرض المِعطاء..
نعم من الصّعب “تلقين الحنين”، كما يلقّنُ معلّمٌ مائِزٌ نابغةٌ تلاميذَه درساً محوريّاً بِحبّ النظافة واللياقة واللباقة، والتزام الآداب العامّة، والإيمان بحبّ الوطن.. ومحبّة الآخَر! ذلك أنّ الحنين أقرب ما يكون لِطبيعة حليب الأمّ، يعرفه الطفل بالغريزة، يكتسبه بالفِطرة، يستدلُّ عليه بالرّائحة فوق الأنفيّة!
هكذا يشمُّ الغريب وطنَه عنْ بُعْدٍ بعيد، فهو يسكنه تماماً، يتلبّسه تماماً، لذا فهو يتذكّرُ كلّ الطرقات والسّاحات، والأسواق والأشواق، يعرف بيته، ومدرسته، ومطارح طفولته، وألوان ذكرياته، ووجوه مُحبّيه وأقربائه وأصدقائه وجيرانه، وزواريب الحيّ، بحاسّةٍ ليست من بين عنوانات الحواسّ المعروفة، ربّما يصحّ أنْ نطلق عليها: “حاسّة الطفولة”، أو “حاسّة الطفل”، أو “حاسّة النّقاء”، أو “حاسّة الشَّغَف”، وهذه لا تخطيء أبداً، مثلما لا يخطئ الأطفال طَعْمَ حليب أمّهاتهم وهُم في براءةٍ مَعْرِفيّةٍ، هي في الأغلب الأعمّ أكثرُ عُمقاً من حِكَمِ الفلاسفة، ونظريّات المنظّرين، وتَعالي المُتَعالين..
الصّحارى، القرَى، المدن، السّفوح، الجبال، الحقول، الينابيع، الأنهار، الأرياف، الغابات، الجدرانُ المُتأبّية على القصف والهدم والانحطام، البيوت المُضمّخة برائحة الورد الجُوري والياسمين وزهر البيلسان، الواقفة تحت عين الشمس “رائعة النّهار”، بِلهبِها وعنفوانها، الإراداتُ الفولاذيّة لحماية الأرض والعِرض معاً، كلّ هذا وسواه، ما هو سوى الوطن الجميل، للطفل الذي كان عالمُهُ هذا الوطن ليس غير، بجغرافيّته ونخوته، وعنفوانه وأفيائه، بشموخه القويّ، ضدّ مَنْ نسجوا له المؤامرات والسياسات والهزّات والمخططات والمطبّات، بمختلف مُسمّياتها وضراواتها والسّفالات! هذا الوطن الجليل الجميل، عاثَ فيه الإرهابُ وشذّاذُ الآفاق المُتشنّعون تقتيلاً وتمثيلاً، وتهديماً وتهجيراً، وفساداً وإفساداً، وأعمالاً مُتشنّعةً سوداً، هي كلّها مَآسٍ فوق لغة الوصف، فوق مواجِع القلوب المطعونة..
حدود الأرض تنتهي عند مشارف هذه المنازل، وهي أيضاً في البدء والمُنتهى: “المنازلُ الّتي لها في القلوبِ منازلُ”!
أمّا آخِرُ الأرض، أمّا نهايتُها، فلا شأن لنا بهما، طالما أنّ بيت العائلة، ووطنها العزيز، لا يزالان بخير وأمان، ما ينفكّان مُتجذّرين بالعقل والذاكرة، بالعين والقلب، بآن معاً!
وكما كلّ الكائنات، بهذا العالَم الضّافي المُتراحِب، فإنّ البيوت والقلاع والأشجار والأنهار والصحاري بوطننا الصّابر العزيز، تستحمّ بماء الصّباحات الورديّة، الهادئة الهانئة، تتعمّدُ بذاك الضّحى البطيء، الذي يدرجُ على أديمِ الأرض، كما يدرجُ عصفورُ الدّوريّ بأرضٍ ليّنةٍ مُعْشَوْشِبة، لا بل تضحك الشوارع والعمارات، والحقول والنفوس بسرّ النّجاحات، كما تضحك النّوافذ والشّرفات، والجدران والعيون والحواري والسّاحات بذلك، هذا الضّحك الأزرق الدّافق المُزَرْكش، لا يدرك كُنْهَه وسرَّه العميق، سوى الأشخاص الأماجد الأفاضل، أولئك الأبطال، الذين شيّدوا كراماتهم ومواقفهم، وغرَسوا شجرهم الصّغير بالعَرَق الأصفى من النّدى، والجهد الأجمل من صباحٍ ربيعيّ بربوع منطقة غزيرة الشّجر، كثيرة الينابيع، بل شيّدوا كلّ شيء، بالاعتماد على الرّوح العِصاميّة، وماء الرّجولة الحقّة، وصدق الأعمال والمواقف والنيّات، بأزمنةٍ غابرةٍ أو حاضرة لا فرْق، هي أشدُّ قسوةً من صخرٍ فولاذيّ أصمّ، ومع كلّ هذا وذاك، فقد نجَحُوا، وأبدَعُوا، وتسَامَقوا، واستشهدوا…
السّؤال الآن بتجرّدٍ وافٍ مُفادُه: “هل نحن اليوم وطنيّون مُبدِعون أخلاقيّون أسوياء”، كما ينبغي، وكما يجب؟!
نعم.. الوطن للسّوريين بكلّ فئاتهم وأطيافهم ومشاربهم وموزاييكهم الاجتماعي الأليف، فكيف دَهَمَتْهُ هذه القطعان المجرمة المُتَشَنِّعة؟ من أين غَزَاهُ هذا الجراد الأصفرُ الحاقدُ اللئيم؟ وكيف جرى كلّ هذا؟
لماذا انثالَ هذا التكالُبُ الإجراميّ المَحمُوم، من الداخل والخارج، ضدّ بلدٍ مُسالِمٍ آمنٍ، يؤمنُ – حسب قوانينه وأبجديّته وسياسته – بالسّلم العالمي، والسّلام المشرّف، شعاراً وهُويّة؟
وطن اسمُه “سورية”… وطن عليه من خالق الأرَضِين والسّماوات مظلّة العون والتأييد، وشآبيب الحماية والرّعاية والعناية، تحرُسه “العيون السّاهرة”، والقلوب النّابضة بضفائر المحبّة، وعنفوان الاعتزاز!! من أجل عينيه العسليّتين، تغنّي كلّ العيون المُتعطّشة للسلام والخلاص والنهوض، بعدما طالَ علينا جميعاً ليلُ الإجرام البَهيم، والقهر العميم، واتّسعت فيه دوائرُ الآلام، واجتماعات القهوة المُرّة: “قهوة العَزاءَات”، على حنظلِ مذاقِها، وتناسُلِ الآهاتِ والصَّرَخات والمواجع والأنّات، ولكنْ لا بدّ للّيل الضّاغط – بعون الله سبحانه – أنْ ينجلي..
الأمل الكبير آتٍ لا محالة، طال الزّمن أم قصر، “إنّهم يرَوْنَه بعيداً ونراهُ قريباً”!!
والانفراجات المقبلة آتية لا محالة، بعدما ذاق الأناسِيُّ الصّابرون في بلدنا الغالي ما ذاقوا، وبعدما تجرّعوا كؤوسَ الآلام والمعاناة والصّعوبات المعيشيّة دِهاقاً، ولا يزالون يتجرّعون، بصبرٍ أيّوبيٍّ مشهود…