العالم و”الرجل المجنون”
بشار محي الدين المحمد
بعد انتشار مجموعة من الآمال الواهمة بتحقق السلم العالمي وهبوط بورصات الذهب والنفط، عاد العالم إلى وعيه ليدرك أن الخطر ما زال يتهدّده وفق مؤشرات متعدّدة. فالمتتبع لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية على مدار عشرات العقود يدرك أنها منقسمة إلى قسمين أو ربما ثلاثة، تتباين أدواتها فيما بينها، وتتعاور التنازل عن أشياء ومخططات ولو مرحلياً، على حساب تنشيط مخططات أخرى، لكنها جميعها يوحدها مسألة أن تكون “أمريكا أولاً”.. تلك العبارة المطاطة التي تقتضي حتى تسفيه القانون الدولي.
ومن الممكن أن تعِد الإدارة الأمريكية بإيقاف حروبها، لكن في الوقت نفسه تنصّب رئيساً تكمن خطورته في أنه لا يمكن التنبوء بقراراته لأنها غالباً ستكون سريعة ومفاجئة، وخاصةً إن كان يصف نفسه علناً بـ “المجنون” الذي “يحترمه الخصوم” بسبب خشيتهم من جنونه وعدم وجود نهج أو رؤية واضحة له.
وكان العالم أيضاً عاصر عقائد أخرى لرؤساء أمريكا، مثل عقيدة مونرو عام ١٨٢٣ الذي اعتبر القارة الأمريكية بالكامل منطقة نفوذ خاصة به، يحظر حتى على الأوروبيين التمدّد إليها، أو عقيدة ترومان منذ الحرب الباردة التي بدأت من خلالها أمريكا التدخل في جميع الصراعات بذريعة “احتواء الشيوعية” وإحلال “الديمقراطية”، فأشعلت جبهات وجبهات من الصراع. أما منذ التسعينيات فسارت على نهج “الإمبرطورية العظمى” عبر تقوية الشركات الأمريكية ودعمها، وتفصيل نظام عالمي على مقاسها، مع منع أي قوة في العالم من النمو بشكل “يهدّد” هيمنة ومصالح شركاتها، كما سار رؤساء آخرون على نظرية أخرى تسعى لخلق أنظمة اجتماعية وأخلاقية تشابه “القيم الأمريكية” في كل العالم، تحت طائلة تغييرها ولو بالحروب، كما حدث مع ألمانيا واليابان، حيث أفضى الأمر إلى نشوب الحرب العالمية الثانية.
أما الإدارة الترامبية فهي تختلف بعض الشيء عن سابقاتها، فهي تكره الحروب، لكن ليس لأنها تعشق السلام، بل لأنها لا تريد دفع التكاليف من خزانتها، ولا تمانع في أن يشعلها الآخرون بين بعضهم البعض، وخاصة أن ذلك سينمي مبيعات شركات السلاح لديها، أو ربما يمكنها من تأجر جحافلها كمرتزقة وقتلة مأجورين. كما تكره تلك الإدارة الاتحاد الأوروبي، وتفضّل مزيداً من ضعفه واعتماده على تسليح ذاته أيضاً من تلك الشركات. كذلك تحب وضع يدها في يد العديد من الزعماء، ولكن ليس محبةً بالدبلوماسية وتحقيق علاقات متكافئة وندية بين الدول، بل طمعاً بالحصول على المبالغ التي من الممكن جبايتها منها على شكل استثمارات ضخمة أو “حمايات” لا تحقق حتى الحماية..
إذا فالمنطقة والعالم اليوم، المرهقان من الحروب والنزاعات – التي تشتد على وقع لهيب سياسات “البطة العرجاء” التي استغلت فترة عرجها أبشع استغلال لإتمام مشروع حزبها المدمر – يستعدان للتعايش مع إدارة جديدة هدفها الأول الربح والارتزاق ومصّ الدماء. فهل ستخطو الشعوب بخطىً أسرع وأقوى تنقذها من تلك الأخطار المتنوعة الأشكال والمضامين، وتحول تجمعاتها إلى أحلاف منيعة رادعة؟