ما زالا على الورق.. “التخطيط” و”الإدارة الإستراتيجية” غائبان في معظم الأجهزة والمؤسسات العامة!
غسان فطوم
لا نأتي بجديد بقولنا إن القيادة والإدارة الإستراتيجية من العوامل الأساسية لنجاح العمل في أية مؤسسة، فهذه قاعدة أو من الثوابت في “الاقتصاد والإدارة” وخاصة في مؤسسات وشركات القطاع العام الذي يواجه تحدياً كبيراً بهذا الخصوص.
وتنبع أهمية الإدارة الإستراتيجية من كونها البوصلة التي تُرشد الأجهزة والمؤسسات نحو المُستقبل، وصمام الأمان الذي يُحافظ على استقرارها في ظل التحديات المُتلاحقة، وذلك بحسب رأي الدكتور سامر المصطفى أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق، مؤكداً أن الإدارة الإستراتيجية اكتسبت أهمية بالغة في جميع أجهزة ومؤسسات الدولة وذلك لارتباطها بعدة عوامل كالتنظيم الإداري، والهياكل التنظيمية، ودراسة الأنظمة واللوائح، والإجراءات، والعمل على تبسيطها من خلال تدريب العنصر البشري، والقوى العاملة وتهيئة البيئة المادية المناسبة لعملهم مما يحسن من أدائهم.
استثمار في المستقبل
ولفت المصطفى إلى أن الاستثمار في الإدارة الإستراتيجية هو استثمارٌ في مستقبل الأجهزة والمؤسسات الحكومية، ويُعدّ عنصراً أساسياً لبناء أجهزة ومؤسسات قوية وناجحة خاصة وأن التطور الإداري للإدارة الإستراتيجية لم يعد كمالياً بل أصبح أمراً حتمياً في الانفتاح الاقتصادي، والانفجار المعلوماتي والتكنولوجي، وتحتاج هذه الأجهزة والمؤسسات الحكومية المختلفة إلى تحديث أنظمتها وتطويرها بصورة مستمرة لتحقيق متطلبات التطور العام في مختلف المجالات لتخطيط وتطوير النمط التقليدي غير المنتج في الأداء وصولاً لأنماط جديدة قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر في بيئة العمل.
أساليب مشوهة
ولم يخفِ أستاذ الاقتصاد وجود العديد من التحديات والصعوبات في الشركات والمؤسسات السورية العامة فيما يخص الإدارة الإستراتيجية، كعدم وجود استراتيجيات واضحة في أغلب هذه الأجهزة والمؤسسات وان وجدت تكون على الورق بدون أي سعي وعمل لتنفيذها أو تنفذ بشكل مشوه بعيد عن الأهداف الإستراتيجية لها وتركز على الإجراءات التنفيذية لوحدات الأعمال بعيداً عن الأهداف الإستراتيجية، إضافة لضعف قدرة القادة والمديرين الاستراتيجيين في هذه على مواكبة التغييرات المطلوبة لتطبيق الإدارة الإستراتيجية فيها، مثل تغيير أساليب العمل التقليدية والاتجاه إلى تعميم استخدام البرامج والأنظمة والتقنيات الرقمية المستحدثة في كل مراحل العمل.
نقص المهارات والخبرات
وأوضح المصطفى أن عدم وجود موارد محدودة لدى هذه الأجهزة والمؤسسات الحكومية (الموارد البشرية من الموظفين والعاملين، والموارد المادية من المواد الخام والسيولة النقدية، وكذلك الموارد التكنولوجية من البرامج والأنظمة الرقمية) أعاق تنفيذ خطوات الإدارة الإستراتيجية بشكل فعال لتحقيق الأهداف الطويلة الأجل، بالإضافة لنقص المهارات والخبرات والقدرات التنظيمية اللازمة لتنفيذ عمليات الإدارة الإستراتيجية بالكفاءة المطلوبة في هذه الأجهزة والمؤسسات الحكومية.
ومن جملة التحديات الأخرى التي أشار إليها الدكتور المصطفى عدم تكامل الخطط الإستراتيجية في الأجهزة والمؤسسات الحكومية مع العمليات والأنشطة اليومية التي تتم، مما ينتج عدم متابعة وتقييم للنتائج، عدا عن وجود حالة من التشتت وعدم التركيز أثناء تنفيذ الخطط الإستراتيجية، مما يؤدي إلى فشل في تحقيق الأهداف ونتائج غير مرضية.
ما هو الحل؟
أما عن الحل لما سبق، فبيّن المصطفى أنه يكمن في تركيز الأجهزة والمؤسسات الحكومية على تنفيذ عناصر عملية الإدارة الإستراتيجية بشكل سليم وممنهج، بداية من المسح البيئي، مروراً بوضع وتنفيذ الإستراتيجية، ونهايةً بالتقييم والرقابة على التنفيذ، من أجل العمل على نمو الأجهزة والمؤسسات الحكومية وتحقيق رؤيتها ورسالتها بشكل ناجح وفعال، بالإضافة إلى ضرورة الاستعانة بالاستشاريين الخبراء في الإدارة الإستراتيجية من خارج المؤسسات الحكومية لمساعدتهم في القيام بعملية الإدارة الإستراتيجية ككل، أو في مرحلة واحدة منها وهي التخطيط الاستراتيجي.
خاسرة ومخسرة
من جانبه رأى الدكتور علي ميا العميد الأسبق لكلية الاقتصاد في جامعة تشرين أن من أهم المشاكل والتحديات التي تواجه مؤسسات وشركات قطاعنا العام افتقارها للإدارة الإستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي، ففي ظل التغيرات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية الهائلة السريعة والمتلاحقة أصبح الأسلوب التقليدي للتفكير الإداري غير مناسب بما فيه الكفاية لمواجهة تحديات المستقبل والظروف الصعبة التي تواجه مؤسساتنا العامة والخاصة.
ودعا ميا إلى الإسراع باستبدال الأساليب الإدارية التقليدية القائمة على التجربة والخطأ والتي لا تزال سائدة في إدارة مؤسساتنا وشركاتنا العامة، الأمر الذي يجعلها تبدو خاسرة أو مخسرة بفعل سوء إدارتها رغم امتلاكها للكثير من المزايا النسبية والتنافسية سواء في مواردها المادية أو البشرية، والسبب برأيه يعود بالدرجة الأولى إلى افتقارها للمديرين والقادة الاستراتيجيين، مبيّناً أن المدير أو القائد الاستراتيجي الذي يمتلك رؤية واضحة للصورة الذي سيكون عليها المستقبل هو الذي يصنع المستقبل بدلاً من أن ينتظره حتى يأتي إليه، مشيراً إلى أن معظم مؤسساتنا وأجهزتنا العامة لا تزال تدار حتى الآن من قبل مدراء تقليدين ينتظرون المستقبل حتى يأتي إليهم لافتقارهم للتفكير الاستراتيجي الذي أصبح من أهم المتطلبات الرئيسية لنجاح الإدارة المعاصرة لكافة المؤسسات بكافة إشكالها العامة والخاصة، حيث أن الأساليب الإدارية والسلوكيات القيادية السائدة لدى معظم مدرائنا لم تعد قادرة على مواكبة المستجدات والمتغيرات في عصر الانفجار المعرفي والتقني، حيث أصبحت هذه المستجدات تشكل تحديات كبيرة لمؤسساتنا، الأمر الذي يتطلب من المديرين امتلاك مهارات وكفاءات جديدة تمكنهم من السعي للبحث عن حلول إبداعية تمكنهم من إصلاح وتطوير مؤسساتنا وتحسين مستوى أدائها وزيادة فعاليتها، لاسيما وإنها تواجه في وقتنا الراهن بالإضافة إلى ظروف الحرب والحصار الجائر بيئة أعمال على درجة كبيرة جداً من التعقيد والتغير يقتضي من إداراتنا العامة أن يصبح التوجه الاستراتيجي هو الأداة المهنية الصحيحة التي تساعدهم على استشراف المستقبل ووضع الخطط والاستراتيجيات المناسبة للتأقلم والتكييف مع الواقع وصناعة المستقبل المنشود من قبل قيادتنا السياسية والتنفيذية لقطاعنا العام ومؤسساته لمتابعة القيام بدورها البناء بأعباء التنمية والتطوير الحضاري وإشباع حاجات مجتمعنا بكافة شرائحه.
قواعد جامدة ومستوردة
ولفت ميا إلى أن تحقيق ما سبق يتطلب من كل مدير اليوم أن يدير مؤسسته أو شركته العامة أو الخاصة استراتيجياً، لأنه لم يعد بمقدوره أن يتخذ قراراته في ضوء قواعد جامدة أو ثابتة أو مستوردة، كون الظروف تتغير من حين لآخر وبالتالي يجب على المدير أن يختار الأسلوب الإداري المناسب لمواجهة هذه المتغيرات، أي أن المدراء ليسوا أحراراً في إدارة مؤسساتهم كما يحلو لهم بأسلوب يعكس هواهم ومزاجهم ويحقق مصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة، بل عليهم امتلاك الرؤية الإستراتيجية والأدوات المهنية التي تمكنهم من رصد كافة الفرص والمخاطر المتوقع حدوثها والتعامل معها فوراً من خلال استراتيجيات معدة سلفا للتعامل معها والخروج منها بأساليب وحلول تصلح لمعالجتها، بدلاً من الاعتماد على أساليب إدارية جاهزة ومستوردة فشلت بامتياز في حل مشاكلنا الخاصة نظرا لاختلاف ظروفنا وبيئتنا عن ظروف الدولة المستوردة منها.
تغيير القواعد والسياسات
وعبّر ميا عن أمله بأن تعمل الحكومة وبكل جدية ودون أي تردد على تغيير القواعد والسياسات والبعد عن أساليب الترقيع في الإصلاح وإعادة البناء والاعتماد بالدرجة الأولى على أسس الكفاءة والجدارة في استقطاب واختيار وتعيين القيادات الإدارية العليا المبدعة وذات الرؤى الإستراتيجية القادرة على تغيير الواقع المؤلم الذي نعيشه اليوم وصناعة المستقبل الذي يليق بوطننا، وذلك لما للإدارة والقيادة الإستراتيجية لمؤسساتنا من أهمية كبرى في استنباط الأساليب والحلول المناسبة لتحسين واقعنا وإصلاح وإعادة تأهيل مؤسساتنا للقيام بدورها المأمول في تجاوز آثار الحرب والحصار وإعادة بناء إنساننا نفسياً ومعرفياً ومادياً ومعنوياً وسلوكياً لكي يأخذ دوره الفاعل في إعادة اعمار بلدنا الحبيبة سورية.
الخلل بالاختيار
طلبة الدراسات العليا والمرحلة الجامعية الأولى في قسم الإدارة وريادة الأعمال في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق انتقدوا غياب الرؤية الواضحة للقيادة والإدارة الإستراتيجية، معللين السبب بالخلل في عملية اختيار الإداريين للمفاصل الحساسة في مؤسسات الدولة، حيث يشير واقع الحال إلى وجود مديرين غير مؤهلين وفاقدين للفكر الإبداعي، ولا يمتلكون مهارات القيادة الرشيقة، وليس لديهم القدرة على اتخاذ القرار الصحيح، أو وضع خطط مستقبلية فعالة تساهم في نمو وتطوير المؤسسة وتحقيق أهدافها.
غياب برامج التأهيل
وبرأي عدد من طلبة الإدارة أن هناك ضبابية في الأفق المستقبلي لعديد المؤسسات، فلا وضوح في الأهداف، نتيجة الروتين القاتل الذي تغلب عليه القرارات الفردية المزاجية، وهذه الأمور هي من أهم معوقات القيادة الإدارية.
وانتقد بعض الطلبة غياب برامج تأهيل الموظفين وتطوير مهاراتهم القيادية وقدراتهم، علماً أن هناك إدارات أو مديرات خاصة بذلك وترصد لها موازنات ضخمة!
واتفق أغلب طلبة الكلية على ضرورة إعادة النظر في الاستراتيجيات الخاصة بالتخطيط والإدارة المتبعة حالياً، كونها بعيدة كثيراً عما نريده ونحتاجه في مواجهة التحديات المستقبلية، فهي بحسب قولهم “تفتقر للتقنيات الحديثة فيما يتعلق بالتقييم والتحليل الإستراتيجي وإدارة المخاطر المحتملة”.
بالمختصر، آن الأوان أن نأخذ بالاهتمام الجدّي أهمية الإدارة الإستراتيجية، فمن غيرها سنضل الطريق ولن نتمكن من التخطيط السليم واتخاذ القرارات التنموية المفصلية، وإيجاد الطرق والسبل المبتكرة للخروج من أزماتنا وتحقيق الأهداف المرجوة على المدى القريب والبعيد.